تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

العيال يحصل لهم فزع. فكمنت له تحت رف وقبضت على رجله، فزلق وصار يستغيث، فقلت له: تتوب؟ فقال: نعم! فلا يزال يَدِقّ فى يدى حتى صارت رجله كالشعرة الواحدة، وخرج. فمن ذلك اليوم ما جاءنا. ونمت ليلة على الخليج الحاكمى ضيفا عند إنسان فى قاعةٍ وحدى، فغلق علىّ، فدخل جماعة من الجن فأطفأوا السراج وداروا حولى يَجْرُون كالخيل، فقلت لهم: وعِزَّة الله كُلُّ من دارت يدى عليه ما أطلقتُه إلا ميتا. ونمت بينهم، فما زالوا يجرون حولى إلى الصباح. ودخلتُ مَرّةً الميضأة بجامع الغمرى بالقاهرة أتوضأ، وكانت ليلة شتاء مظلمة، فدخل علىّ عفريت كالفحل الجاموس فهبط فى المغطس وصعد الماءُ فوق الإفريز نحو نصف ذراع، فقلت له: ابعد عنى حتى أتوضأ. فلم يرض، فجعلت فى وسطى مئزرا وهبطت عليه فزهق تحتى وفر هاربا. ووقع لى مع الجن وقائع كثيرة، وإنما ذكرت لك ذلك لتعلم أن من قرأ الأوردة الواردة فى عمل اليوم والليلة فليس للجن ولا للإنس عليه سبيل". ويعلق د. زكى مبارك على هذا الكلام وشِبْهه بأن الشعرانى يكذب (انظر د. زكى مبارك/ التصوف فى الدين والأخلاق/ 1/ 349 - 350).

وسواء كان حكم الدكاترة زكى مبارك عليه صحيحا أو كان الشعرانى يتوهم وقوع ما لا يصح، فالمصيبة أن ذلك كان منتشرا فى تلك الأيام. فحتى لو كان يكذب لم يكن يكذب إلا وهو يعلم أن الآخرين سوف يصدقون ما يقول لأنهم يؤمنون به. ويزداد الأمر شنعا وبشاعة حين يصدر من الشعرانى أكبر شيخ صوفى فى عصره. وشىء آخر يورده زكى مبارك مما سجله الشعرانى فى كتابه المذكور، وهو عن "المَطْلَب"، أى الكنز من الكنوز التى كان الناس فى ذلك الزمن يتصورون أنها مدفونة فى الأرض. يقول الشعرانى: "قلت لشخص من أبناء الدنيا: تعال اسهر معنا هذه الليلة. وكانت ليلة العيد الأصغر، فتعلل بأن السهر يضره، فقلت: بالله عليك اصْدُقْنِى: إذا أردت أن تفتح مَطْلَبًا وأبطأ عليك البَخُور الذى تطلقه من العشاء إلى الفجر، هل كنت تسهر إلى الصباح تترقب مجيئه؟ فقال: نعم! فقلت له: فإذا أبطأ من بعد الفجر إلى المغرب، هل كنت تترقبه ولا تنام؟ قال: نعم! فدرّجته إلى تسعة أيام، وهو يجد أنه يقدر على السهر من غير وضع جنبه إلى الأرض. فقلت له: فى اليوم العاشر؟ قال: لا أقدر. فقلت له: يا أخى، فإذن أنت تُؤْثِر الدنيا على الآخرة؟ قال: نعم" (المرجع السابق/ 1/ 351).

لقد كان للعلم مكانته العظيمة الكريمة أيام عز المسلمين، لكن الحال قد تدهور مع مرور القرون، فصار كثير منهم يعتقدون فى الخرافات الضالة المضلة. كما صاروا لا يهتمون بالجِدّ والعمل من أجل القوة والغلبة والسيادة والغنى فى الدنيا، واستسلمت الجماهير لما تظنه قضاء وقدرا كُتِب عليها منذ الأزل فليس لها منه أى نجاء، غافلة عن أن القضاء والقدر ليسا أكثر من السنن التى أقام الله عليها كونه وسيَّره عليها بحيث يستطيع البشر من خلال فهمها والعمل بمقتضاها أن يسيطروا على الدنيا من حولهم وأن يدبروا من ثَمَّ أمورهم أفضل تدبير ممكن: "إنّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (القمر/ 49)، "فلَنْ تَجِدَ لسُنَّة الله تبديلاً، ولَنْ تَجِدَ لسُنَّة اللهِ تحويلا" (فاطر/ 43)، "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ" (الرحمن/ 7 - 9). أى أن كل شىء فى الكون مخلوق بقَدَرٍ منضبط لا زيادة فيه ولا نقص بل على أساس من الميزان الدقيق، فهو يجرى على سنة لا تتخلف، اللهم إلا فى معجزات الأنبياء، وهى أمور عارضة لا تَطَّرِد ولا تستمر بل تنتهى فى وقتها، كما أنه قد انتهى إرسال الأنبياء، فليس أمام الناس إذن إلا الالتزام بتلك السنن واكتشاف أسرارها والجرى على ما تستلزمه من تدابير، وإلا فشلت الأمور فشلا ذريعا مهما أكثر الناس من الدعاء والابتهال، إذ الدعاء والابتهال إنما يأتيان بالثمرة المرجوّة منهما بعد استكمال العمل وإتقانه على خير وجه. ثم إن الاستجابة لهما قد تتأخر أحيانا لتقع على نحو آخر أفضل مما يريده الداعى طبقا لما وضحه الرسول الكريم فى أحد أحاديثه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير