تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفى هذا الصدد يكتب د. أحمد أمين فى كتابه: "يوم الإسلام" (مكتبة النهضة المصرية/ 23 - 24): "كانت عقيدة القضاء والقدر والتوكل سليمة فى عهد الرسول وكبار الصحابة، فكانت لا تمنعهم من غزو وحرب وفتوح بلدان وتغلُّبٍ على أمم. وقد فهموها فهما لا يمنع من الأخذ بالأسباب كما جاء فى الحديث الشريف: "اعقلها وتوكَّلْ". فكانوا يؤمنون بارتباط الأسباب بمسبِّباتها: فالماء يُرْوِى، والنار تُحْرِق. وفى القرآن: "قلنا: يا نارُ، كونى بَرْدًا وسلامًا عَلَى إبراهيم"، وفيه مئات من الآيات تدل على ارتباط الأسباب بالمسببات، حتى جاء الأشاعرة فلم يربطوا بين الأسباب ومسبباتها، فلا تأثير عندهم للماء فى الرِّىّ ولا للنار فى الإحراق. قالوا: وإنما المؤثر هو الله تعالى عند حدوث الأسباب لا بها. وقالوا بتكفير من اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الرِّىّ فى الماء، وقوة الإحراق فى النار. وإنما الإيمان والاعتقاد بأن الرِّىّ جاء من جانب المبدإ الفياض بلا واسطة، وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل فى ذلك. وبذلك فَكُّوا الأسباب عن مسبِّباتها، فكان لهذا من الأثر البالغ ما جعل المسلمين فيما بعد يبالغون فى عقيدة القضاء والقدر، ويربطون الحوادث بالخرافات والأوهام لا بالأسباب والمسبِّبات، فالزرع إنما ينجح بالقَدَر، ويَفْسُد بالقَدَر لا بما أثبته العلم وما يجره الإهمال ... وهكذا أصبحت عقيدة القضاء والقدر صادّةً عن العمل. وفرق كبير بين العقيدة فى القضاء والقدر وبين الجبر، فالقضاء والقدَر الصحيحان يؤمنان بربط الأسباب بمسبّباتها ويحملان صاحبهما على العمل، ثم فلتكن النتيجة ما تكون. وعلى هذه العقيدة كان أكابر الشجعان الفاتحين من أمثال خالد بن الوليد وتيمورلنك والإسكندر ونحوهم لا يهابون الموت اعتمادا على أن ما قُدِّر يكون. أما الجبر فيرى الإنسان كالريشة فى مهب الريح، وما قُدِّر لا بد أن يكون، عَمِل الإنسان أو لم يعمل، تشجّع أو لم يتشجّع. وهذه العقيدة على هذا النحو دخيلة على الإسلام، مما جعل كثيرا من الأوربيين يجعلون من عيوب الإسلام العقيدة فى القضاء والقدر والتوكل على الله. ولو أنصفوا لعدوها بحالتها الحاضرة من عيوب المسلمين لا من عيوب الإسلام".

وما قاله د. أحمد أمين صحيح فى جملته إلى حد كبير. ذلك أن الناس كانت تخلط الأمور خلطا، فيبذلون فى عملهم بعض جهدهم لا كله، كما أنهم لم يكونوا يتقنون ما يعملون ولا يتابعونه بالصيانة والحياطة، وإذا هاجمته الآفات لم يأخذوا بالاحتياطات الواجبة لا قبلها ولا أثناءها، بل فوضوا الأمر إلى الأقدار فى الغالب، وتركوا الأمور تأخذ مجراها الذى تريده هى لا الذى يستطيعونه هم. لكن عقيدة الأشاعرة التى يشير إليها أحمد أمين لا تدعو فى الأصل إلى هذا الذى فهمه الناس فيما بعد، بل تريد أن تقول، كما قصد الإمام الغزالى فى بداية الأمر، إن الله هو الخالق المريد الفعال، وما الكون كله من بشر وغير بشر إلا صنع يديه، ولا يجرى شىء فى ذلك الكون إلا بناء على ما شاء سبحانه وتعالى تنظيمه على أساس منه. وإذا كانت النار تحرق من يلامسها أو يَدْخُلها فإن النار فى ذاتها لا مدخل لها فى هذا، إذ هى مخلوقة أوّلاً، كما أنها لا إرادة لها ولا عقل ثانيا حتى تحرق أو لا تحرق، بل الله هو الذى جعلها كذلك. وليس فى هذا ما يناقض الإسلام ولا العقل. لكن هذا شىء، والزعم بأن الغزالى قد أراد أنه لو مست النار إنسانا أو أحاطت به لا تحرقه هو شىء آخر تماما. فهذا الإمام الجليل رضى الله عنه لم يقل هذا، بل قال إن الإحراق سيتم مثلما يزول العطش عند شرب الماء، لكن بأمر الله وليس بأمر النار ولا الماء لأنه سبحانه هو الذى وضع فى كل من الماء والنار خاصيته التى يعمل على أساسها. وهل هناك من المسلمين من ينكر هذا؟ فليس هناك أى إنكار للأخذ بالأسباب كما نرى، إلا أن الأمر اتخذ مجرى آخر عند جماهير المسلمين كما قلنا، فتركوا العمل وركنوا إلى الكسل وظنوا أن القدر سيكون رحيما بهم، وهو ما لم يحدث ولن يحدث ما ظلوا فى نومتهم مهما دَعَوْا وابتهلوا وصَلَّوْا وصاموا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير