تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبالمناسبة فهذا الذى قاله الإمام الغزالى قد قاله بعد ذلك بعض فلاسفة الغرب المشاهير كديفيد هيوم وغيره، ولم يكن لذلك أدنى أثر سيئ على مجرى التقدم العلمى فى الغرب. ذلك أن هيوم وأمثاله قد قالوا ذلك فى أوربا فى وقت قوة وتوفز لا فى وقت تراجع وانهيار وتفتت. ويوم تتخلف أوربا من بعد تقدم وتحضر قد يتحول رأى هيوم هذا إلى عائق مثبط كما حدث عندنا حسب تقدير د. أحمد أمين. ثم إن الأشاعرة ليسوا هم أصحاب هذا الرأى فى الأساس، بل بعض علماء الطبيعة من المسلمين القدماء كجابر بن حيان مثلا، ثم أخذه بعض فلاسفة أوربا كما قلنا مع شىء من التحوير. بل إن العلماء الأوربيين الآن يقولون بأن ما نسميه بـ"القوانين الطبيعية" هى أمور احتمالية، ولو على المستوى النظرى، إذ من الممكن جدا أن نقوم من النوم مثلا ذات يوم فنجد الشمس تشرق من الغرب لا من الشرق حسبما اعتادت البشرية لملايين السنين (انظر د. زكى نجيب محمود/ جابر بن حيان/ مكتبة مصر/ سلسلة "أعلام العرب"/ العدد 3/ 66 وما بعدها. وقد تناول د. زكى هذه الفكرة مرة أخرى بشىء من التفصيل فى كتابه عن ديفيد هيوم فى سلسلة "أعلام الغرب").

وليس بعيدا عما نحن فيه ما يشير إليه القرآن حين يتحدث عما سيحدث يوم القيامة، إذ سوف تتغير القوانين التى نعرفها الآن ويتم استبدال قوانين أخرى بها يجرى العمل بمقتضاها فى الدار الآخرة. وفوق هذا فإن تلك العقيدة لازمةٌ لتفسير وقوع المعجزات التى ذكر الله سبحانه تحققها بفضله ومشيئته على يد هذا النبى أو ذاك كما هو مذكور فى القرآن المجيد. ولقد كان المسلمون منذ البداية يؤمنون بعقيدة القضاء والقدر، فكانت تلك العقيدة خير معين لهم فيما أنجزوه من جلائل الأعمال فى فتوحهم وانتصاراتهم السياسية والثقافية والحضارية العجيبة. لكنها، وهذا هو مناط العبرة والموعظة، تحولت إلى معوِّق للمسلمين عندما تخلفوا. ذلك أن العقلية المتخلفة تفسد كل شىء جميل وتصيّره عقبةً كَأْدَاءَ بعدما كان دافعًا مُلِحًّا يستفز العقول والإرادات إلى العمل وصنع العجائب المدهشات. إن الذى خلق هذه النواميس هو الله سبحانه، وليس فيها ولا فى غيرها من أشياء الكون ما يجبره سبحانه على أن يبقيها كما هى فلا يغيرها إذا شاء. ذلك أن الله مطلق القدرة والإرادة، والكون كله خاضع لإرادته المطلقة الشاملة. صحيح أنه أجرى الكون على نظام معين، لكن من قال إن ذلك النظام غير قابل للتعديل؟

إن الإمام الغزالى مثلا وبعض الفلاسفة الأوربيين المحدثين مثل ديكارت وهيوم ورَسِل يؤكدون أن ما نسميه بـ"قانون السببية" هو أمر لا وجود له، إذ المسألة عندهم لا تخرج عن مجرد تتابع حادثتين، فنظن نحن، لكثرة ما نشاهد هذا التتابع، أن الحادثة الأولى هى السبب فى وقوع الحادثة الثانية كالنار والإحراق، والأكل والشبع ... إلخ. يريدون أن يقولوا إنه ليس فى النار حتمية الإحراق، ولا فى الطعام حتمية الإشباع (انظر مثلا "تهافت الفلاسفة" للإمام الغزالى/ تحقيق د. سليمان دنيا/ ط6/ دار المعارف/239 - 140، وكذلك ص 44 - 45 من مقدمة المحقق، و"قصة الفلسفة الحديثة" لزكى نجيب محمود وأحمد أمين/ ط6/ مكتبة النهضة المصرية/ 1403هـ-1983م/ 156 - 158، و"أثر العرب فى الحضارة الأوربية" للعقاد / ط8/ دار المعارف/ 100 - 101، و"موسوعة الفلسفة" للدكتور عبد الرحمن بدوى/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ 1984م/ 2/ 615 - 616). وتفسير الإمام الغزالى للأمر أن الله تعالى هو الفعال الحقيقى للإحراق والإشباع وغيرهما، أما النار والطعام فلا يزيدان عن أن يكونا شيئين يقع معهما ذلك دون أن يكونا هما السبب فيه. وهو ما يعنى أن الله لو أراد أن تكون نار ولا إحراق، أو إحراق ولا نار، لكان ما أراد. وهذا، فى الواقع، هو الرأى الذى ينسجم مع الإيمان بالله وقدرته ومشيئته، اللتين لا يعجزهما شىء فى الأرض ولا فى السماء. ولا يقولن أحد إن هذا معناه أن الكون، بهذه الطريقة، ستسوده الفوضى بحيث لا تستطيع البشرية أن تتعامل معه. ذلك أن هذا الخرق للنواميس لا يقع إلا بين الحين والحين البعيد وفى أضيق نطاق، وعلى نحو عارض تعود الأمور بعدها إلى ما كانت عليه. على ألا يغيب عن بالنا فى ذات الوقت أن إرادة الله هى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى ذلك. حتى إذا رأت تلك الإرادة فى نهاية المطاف أن هذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير