تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الطبيعية الأخرى أسفرت عن الانهيار الاقتصادي والسياسي للحضارات الأولى".

ومعظم ما قيل هنا هو كلام مقبول، إلا أنه يقتصر على الوصف والرصد، ولا يلقى بالا إلى تقديم خريطة للعلاج. فنحن نعرف مثلا أنه ما من حضارة إلا وشاخت وسقطت وانهارت وانسحب أصحابها إلى الظل إلى أن تواتيهم فرصة أخرى يعودون بعدها إلى الساحة لاعبين ناشطين مؤثرين، وربما لم يقدَّر لهم أن يعودوا مرة ثانية لقرون طوال، بل ربما استؤصلوا فلم يبق منهم أحد، وإن تركوا خلفهم للتاريخ آثارا تقول إنه كانت هاهنا يوما حضارة أقامها الشعب الفلانى البائد. لكن المشكلة هى أنه ما من فيلسوف أو مفكر أو مصلح استطاع أن يضع خطة يقينية لترميم حضارة قومه المنهارة وبَعْثها وبَعْثهم إلى الحياة الفاعلة المؤثرة على أساس منها. نعم قد ينجح بعض المصلحين فى ترميم هذا الجانب أو تقوية ذاك الجانب حين تكون حضارة قومه لا تزال حية، فيؤخر سقوطها أو يطيل قوتها بعض الشىء. لكن متى انتهى الأمر وسقطت الحضارة فهنا يتغير الموقف. وها نحن فى بلاد الإسلام نحاول أن ننهض من رقدة الشلل التى نرقدها منذ قرون، وتقوم انقلابات وثورات هنا وهناك، ونجرب أنظمة نقتبسها من هنا وهاهنا، وتتوالى الوجوه فى دست الحكم، ونخوض حروبا بعضنا ضد بعض أو تُشَنّ علينا حروب لم نختر توقيتها ولا أحسنّا الاستعداد لها، وننفق الثروات الهائلة على السلاح ونتوسع فى التعليم ونبنى المدن الجديدة ونأخذ بيد المرأة ونُدْخِل شكل النظام الديمقراطى إلى حياتنا السياسية وننقل عن الغرب أحدث ما عنده فى عالم الاتصالات والمواصلات، لكن الثمرة شحيحة ومرة وقليلة الجدوى، وتبدو الأمور وكأننا نمشى بخطا السلاحف فى الوقت الذى يطير العالم من حولنا طيرانا فى أجواز السماء. ويتساءل العقل: لماذا لا نستطيع أن نحرز شيئا مما نتطلع إليه؟ سيقال إننا غير جادين، وعزائمنا خائرة فاترة، وإن معظم نشاطنا كلام، وأفعالنا قليلة وينقصها الحرارة والجِدّ والإخلاص. ونقول: نعم هذا صحيح، لكن السؤال يبقى كما هو: لماذا؟ من الممكن أن يقال إن هذا ميراث لزمن طويل من التخلف والضعف ورثناه عن آبائنا وأجدادنا. ومرة أخرى نقول: هذا صحيح، ولكن لماذا لا نستطيع أن نتغلب على هذه العيوب وننعتق من إسار هذا التخلف الذى وَرَّثونا إياه، ونرجع إلى القيم العظيمة التى خلقت منهم سادة للعالم بعد أن لم يكونوا شيئا ذا قيمة، قيم الإسلام العقيدية والعلمية والخلقية والاجتماعية والإنسانية، بدلا من قيم التخلف من تواكل وبلادة ونفور من السعى الجاد وراء العلم ورضا بالدَّنِيّة فى كل مجال تقريبا ونكوص عن المعالى وضعف فى الثقة بالنفس واستسلام للاستبداد: الاستبداد الداخلى والاستبداد الخارجى على السواء، واكتفاء بالشقشقة اللفظية دون أن يصاحبها عمل جاد من شأنه أن يغير ويصلح ويبلغ بنا ما نتطلع إليه من آمال؟

سيقول هِيجِلْ إن الحضارة تشبه مشعلا يتناوله كل شعب من الشعب الذى سبقه فيحمله زمنا ليسلمه بدوره إلى من يليه. وليس لنا على هذا الكلام أى اعتراض، وبخاصة أننا تسلمنا يوما تلك الشعلة وحملناها زمنا طويلا، ثم فقدناها، وليس فى الأفق ما يبشر أننا مستعيدوها قريبا، اللهم إلا إذا فاجأتنا الأقدار بشىء ليس فى الحسبان. لكن هذا لا يحل المشكلة كما قلنا، ولا يعيد لنا الشعلة ثانية لنَشْرُف بحملها ونتقدم الصفوف ونسترد كرامتنا التى ضيعناها بأيدينا ونعيش كما يعيش عباد الله الكرام فى عزة وطمأنينة وقوة وجاه. وسيقول لنا شبِنْجِلَرْ إن الحضارات تولد وتنضج ولكنها لا تبقى إلى الأبد، بل تشيخ وتموت لتحل محلها حضارة أخرى لشعب طافر متوثب. وليس لنا أدنى اعتراض على هذا، فهذا هو ما يقوله لنا التاريخ بلسانه الطلق الفصيح وقانونه الذى لم نره يوما يتخلف حتى الآن. ولكن لماذا لا تهبّ أمتنا تطفر وتتوثب وتتخلص من تخثُّر قواها وبلادة مشاعرها وعجز همتها وفتور إرادتها وكسل عقلها كما فعلت أمم من حولنا كاليابان مثلا، التى بدأت نهضتها الحديثة معنا هنا فى مصر فتقدمت إلى الصف الأول فى مجالات كثيرة، وبقينا نحن فى تخلفنا وضعفنا، أو كالصين، التى لا تعود نهضتها السياسية والاقتصادية إلا إلى بضعة عقود لا تُعَدّ فى حساب التاريخ شيئا، وها هى ذى تفرض نفسها على المحافل الدولية بعدما كانت عليلة الجسد يُظَنّ أنها

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير