تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قلناه هنا، فلن تخطئ فى قولك.

لقد تتالت الحركات والانقلابات والثورات العسكرية، وظهر المصلحون أو مُدَّعُو الإصلاح من كل لون وشكل: فمن حكام إلى صحافيين إلى مفكرين إلى أدباء إلى علماء إلى ضباط، ومن محمد على إلى رفاعة الطهطاوى إلى جمال الدين الأفغانى إلى محمد عبده إلى عرابى إلى عبد الله النديم إلى مصطفى كامل إلى محمد فريد إلى سعد زغلول إلى حسن البنا إلى محمد نجيب إلى جمال عبد الناصر ... إلخ، وهذا فى مصر فقط، إلا أن شيئا حاسما ينقل الأمة من حال إلى حال لم يقع ولا حتى فى الدين، فالأغلبية تفهمه على أنه لحية ونقاب، ثم الصلاة والصيام لا غير، ثم تبقى الأمور بعد ذلك على حالها، فلا الطالب تدين تدينا حقيقيا واجتهد فى أن يتفوق ويتقرب إلى الله سبحانه من خلال السعى الجاد لتثقيف عقله وذوقه بحضور الدروس وارتياد المكتبات واستذكار المقرر أولا بأول وإتقان ما يُطْلَب منه تحضيره وعدم الاكتفاء بالكتاب المدرسى، ولا الحِرْفِىّ تدين تدينا حقيقيا فاحترم مواعيده واعتدل فى تقدير أتعابه وأتقن إصلاح ما يصلحه لصاحب البيت ولم يخدعه بقطعة غيار قديمة يخرجها من حقيبته قد أخذها بسيف الحياء من عميل سابق وقدمها إلى عميله اللاحق على أنها قطعة جديدة معطيا إياها له بثمن أكبر من ثمن الجديدة، ثم هى لا تعمل فى الغالب إلا لوقت محدود مقدار ما ينصرف الحرفى، وإذا بالمشكلة تعود من جديد، وكأنك يا أبا زيد ما غزوت ... وهكذا دواليك. وقس باقى البلاد العربية والإسلامية على مصر، فلسوف تجد الأوضاع متشابهة، وكأننا ثمرة خط إنتاج واحد لا يتغير، اللهم فى التفاصيل التافهة، أما الخطوط العامة والأمور الهامة فلا اختلاف فيها.

والعجيب أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان الإسلام لا يزال فى غضارته ونضارته ويتوثب حيوية وانطلاقا ونشاطا ويكسب النصر بعد النصر، والقرآن يبشر المسلمين بأن لهم الغلبة على أعدائهم، وهو ما وقع فعلا حسبما بشَّر، العجيب أن يقول الرسول مع ذلك للمسلمين فى ذلك الوقت أيضا: "يوشك أن تَدَاعَى عليكم الأمم من كل أفق كما تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلى قصعتها. قيل: يا رسول الله، فمن قلة يومئذ؟ قال: لا، ولكنكم غُثَاءٌ كغثاء السيل: يُجْعَل الوهن في قلوبكم، ويُنْزَع الرعب من قلوب عدوكم لحبّكم الدنيا وكراهيتكم الموت"، أى لفقدانكم عوامل الحضارة وموات عزيمتكم وكراهيتكم للحياة الحرة الأبية الكريمة الراقية ورضاكم بالهوان على أيدى حكامكم وأعدائكم، فلا تنصركم السماء بعدما خذلتم أنتم أنفسكم بأنفسكم، وحقت عليكم كلمة الله وعقوبته فى الدنيا قبل الآخرة، ثم فى الآخرة بعد الدنيا. والحق أنه لو لم يكن للرسول إلا هذه النبوءة لكفته عندى دليلا على أنه رسول صادق أمين، إذ لماذا يزعج النبى الكاذب أتباعه، وهم فى غمرة النصر ونشوته، بالتنغيص عليهم بمثل تلك النبوءة، إن كان يستطيع أى نبى كاذب التنبؤ بمثلها أصلا؟ إن هذا لكلامُ الأنبياء الصادقين. وها نحن المسلمين أولاء نراه بأم أعيننا منذ قرون، وبخاصة فى حرب الخليج الثانية حيث تداعت على العراق الأمم من كل جانب ومن كل شكل ولون بما فيها تلك الأمم التى لم يسمع الإنسان باسمها يوما، بل لا يستطيع أن يراها على الخريطة لهوان شأنها، فهى نكرة لا تلفت نظر أحد، وكلها اشتركت فى ضرب العراق. وما كان الله ليظلمنا، ولكن كنا لأنفسنا ظالمين!

ولعل القارئ قد لاحظ إنحائى باللائمة على الشعوب أوّلاً لا على الحكام، على عكس ما هو شائع بين المصلحين والدارسين والمفكرين. ذلك أن أصحاب المصلحة فى التقدم والتحضر إنما هم الرعية لا الراعى، الذى كلما كانت رعيته ترتع فى الجهل والخنوع والرضا بالهوان وتنحنى راكعة على قدميه تلثمهما كان ذلك أحرى بإسعاده، إذ يصير الحكم كله بهذه الطريقة مغانم ولذة وحبورا، فلا أحد يناوئه، ولا أحد يحاسبه، ولا أحد يعترض عليه، ولا أحد يطالبه بشىء مما يحتجنه فى يديه، ولا أحد يجرؤ على النظر إلى وجهه. ومَنْ مِنَ الناس يكره أن يكون هو ذلك الحاكم فيعمل على أن يخلق لنفسه أسبابا للإزعاج والتنكيد؟ كتب د. أحمد أمين فى كتابه الشائق المؤلم: "يوم الإسلام"، الذى يتحول فى نهايته إلى مرثية مرة للعالم الإسلامى وللمسلمين، ولم يكن ينقص المؤلف إلا أن ينشج من الهم والقهر لما وصلت إليه حال أمته، كتب الرجل أنه فى سنة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير