تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما قوله تعالى: "وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" (الإسراء/ 16) فلا يمكن أن يُفْهَم حق الفهم إلا إذا قلنا إن التدمير ليس بسبب فسق الحكام وحدهم، وإلا فما ذنب الشعب؟ الواقع أن الشعوب هى المسؤولة أولا عن سكوتها على فسق حكامها وسَوْمهم إياها التنكيل والإفقار والتجويع والقتل والسجن والتشريد وتكبيلها بالمعاهدات المجنونة التى لا تراعى مصالحها ولا تضع مستقبلها فى الاعتبار. وعلى هذا فمعنى الآية أنه إذا ما أراد الله إهلاك مجتمع من المجتمعات، أى إذا ما قُدِّر لمجتمع من المجتمعات أن ينهار ويهلك، فإن أسباب الهلاك تظهر أول ما تظهر فى مترفيه. فإذا استيقظ الشعب ووقف ضد هذا الفساد وحاربه وأثبت أنه شعب من الرجال الأعزة الكرام فأوقف المترفين الفاسقين عند حدهم ورَدَّهم عن بغيهم، فإن المجتمع يُكْتَب له فى هذه الحالة العافية والفلاح، أما إذا انقمع الشعب وارتعب وحنى ظهره لحكامه كى يركبوه ويمتطوه على هواهم فإن الله يدمره فى هذه الحالة تدميرا. فليس معنى ما يقوله القرآن عن أَمْر الله للمترفين بالانحراف أنه عز وجل يأمرهم بالفسق والفجور، بل معناه أن هذه سنته فى هلاك الأمم، إذ تنام الشعوب عن حقوقها ومصالحها فينشأ الطغيان، ثم يزيد الطين بِلَّةً بأن تخنع الشعوب لذلك الطغيان بدلا من أن توقفه عند حده. ولقد وجدت الأمير شكيب أرسلان أيضا يرجع السبب فى تقدم المسلمين قديما وتخلفهم إلى العزة، وتهاويهم فى عصرنا هذا إلى فقدانهم للعزة، تلك العزة التى هى من صفات المؤمنين حسبما تقول الآية الثامنة من سورة "المنافقون": "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين". كما أشار، رحمه الله، إلى قوله سبحانه: "إن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم" موضحًا أنه حين فقد المسلمون العزة تغيروا فغير الله أوضاعهم من الرقىّ إلى الانحطاط (انظر كتابه: "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ "/ 43). وقد سبق، لدن حديثى عن مفهوم "القابلية للاستعمار" فى كتابات ملك بن نبى، أن قلت إن هذه القابلية للاستعمار ليست إلا عرضا لمرض دفين سابق هو الذلة وفقدان الشعور بالكرامة.

وقد أوجز د. أحمد أمين، فى مقدمة كتابه: "زعماء الإصلاح فى العصر الحديث"، وصف أوضاع المسلمين فى قمة مجدهم وفى وهدة انحطاطهم فأحسن الإيجاز إذ كتب يقول: "بلغ العالم الإسلامي في القرون الأربعة الأولى شأوا بعيدا في الخلق والعلم والحضارة حتى كاد يكون سيد العالم في هذا كله: فخُلُقه في حربه وسلمه قوي متين، وعِلْمُه استوعب ما عند الأمم الأخرى من هند وفرس ويونان وروم وهَضَمه كله ومزجه مزجا جميلا وبنى عليه وابتكر فيه، وحضارته كانت خير الحضارات. تزدهر مدنه كبغداد ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة بشتى ألوان الحضارة من علم وفن وعمارة وتجارة وصناعة حتى كان يُرْحَل إليها جميعا للأخذ عنها والاقتباس منها. هذا إلى حرية في العقيدة، وحرية في القول والعمل. وهي حرية قلما كان يتمتع بها غيرهم من الأمم. وكان ينعم بها كل من استظل بظلهم من نصارى ويهود ومجوس، على حين كان يشقى في الشعوب الأخرى كل من خالف دينها واعتقد غير عقيدتها. ثم بدأت فيه عوامل الضعف بعد ذلك، وتوالت عليه الكوارث، وتتابعت عليه الخطوب. وكلما مر عليه زمن زاد ضعفه وبدا هزاله. وكان أول ذلك ما دهمه من قبائل الترك الرحالة، وكانوا إذ ذاك معروفين بالغلظة والجفوة، لا يحسنون إلا القتال من غير رحمة، والفتك من غير روية. لا علم ولا حضارة ولا معرفة بأساليب الحكم وقوانين السياسة. ومَكَّن لهم الخلفاء لحاجتهم إليهم حتى كانوا السيد المطاع والحاكم المستبد. وسرعان ما دخلوا في الإسلام ولمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، فلم يؤاخوا المسلمين بل استعبدوهم، ولم يرحموهم بل نكّلوا بهم، ولم يؤسسوا علما ولا حضارة، بل قضوا على العلم والحضارة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير