تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وجاءت الحروب الصليبية فاكتسحت آسيا الصغرى، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، وجندت أوربا الجيوش تلو الجيوش لهذا الغزو، وتتابعت البعوث قرونا، والعالم الإسلامي يبذل كل جهوده وقواه وموارده لدفع هذه النازلة، حتى استنفدت ذكاءه وماله ومهارته وكل مقدرة له. وفي القرن السابع الهجري اكتسح المغول جزء كبيرا من العالم الإسلامي، وعلى رأسهم جنكيزخان هذا الجبار المتمرد، ثم خلفاؤه من بعده مثل هولاكو. ولم تكن غايتهم الفتح والاستعمار ولا الغُنْم والاستلاب فحسب، بل كانت الفتك والتدمير أيضا، فحطموا بغداد وحضارتها وعلمها وفنها، وكانت زينة العالم وبهجة الدنيا، فذبحوا أهلها وخرّبوا عمرانها، وأتلفوا جسورها وكل ما بها. وكانت نكبة بغداد نكبة العالم الإسلامي. وفي أول القرن التاسع الهجري زحف تيمورلنك، فمثّل دور جنكيز خان وهولاكو، فذبح ودمّر وأتلف وخرّب، ورمى العالم الإسلامي بكارثة عظمى ولمّا يستفق مما غَشِيَه من النوازل قبلها. ثم امتدت فتوح الأتراك العثمانيين فلم يكن حكم أكثرهم حكما صالحا، ولم يَسُوسُوا الأمم سياسة عادلة. كانوا شجعانا مقاتلين، ولم يكن أغلبهم ساسة عادلين. عُنُوا بالحرب أكثر مما عُنُوا بالإدارة ونظم الحكم، ومهروا في الفتح أكثر مما مهروا في إقامة صرح العلم ومتابعة السير بالحضارة، فزاد العالم الإسلامي تدهورا على توالي الأزمان: ظلمة حالكة، ومحنة شاملة، وجهل مطبق، وظلم فادح، وفقر مدقع.

هذا سائح فرنسي يزور مصر في آخر القرن الثامن عشر، وهو مسيو فولني، وأقام بها وبالشام نحو أربع سنوات، يقول: "إن الجهل في هذه البلاد عام شامل، مَثَلُها في ذلك مَثَلُ سائر البلاد التركية. يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية من أدب وعلم وفن، والصناعات فيها في أبسط حالاتها، حتى إذا فسدت ساعتك لم تجد من يصلحها إلا أن يكون أجنبيا". وهذه الحكومة المصرية نراها إذ ذاك تخشى تعليم الرياضة والطبيعة، فتستفتي شيخ الجامع الأزهر الشيخ محمد الإنبابي: "هل يجوز تعليم المسلمين العلوم الرياضية كالهندسة والحساب والهيئة والطبيعيات وتركيب الأجزاء المعبَّر عنه بـ"الكيمياء" وغيرها من سائر المعارف؟ "، فيجيب الشيخ في حذر: "إن ذلك يجوز مع بيان النفع من تعلمها"، كأن هذه العلوم لم يكن للمسلمين عهد بها، ولم يكونوا من مخترعيها وذوي التفوق فيها. كان العالم الإسلامي منعزلا لا يتصل بأوربا إلا فيما تعانيه تركيا من مشاكلها السياسية، فليس هناك بين الشعوب الإسلامية والشعوب الأوربية اتصال في الثقافة والعلم والصناعة ونظم الحكم يمهد لها الاستفادة منها والأخذ عنها. لقد أُغْلِقَتْ على العالم الإسلامي الأبواب منذ الحروب الصليبية، وأخذ يأكل بعضه بعضا. وقف المسلمون في علمهم فليس إلا ترديد بعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها، وفي صناعتهم فلا اختراع ولا إتقان للقديم، وفي آلاتهم وفنونهم العسكرية فهي على نمط الأقدمين. وسكان المدن والريف قد أُبْعِدوا عن الاشتراك في الشؤون السياسية والحربية فلا تراهم في جيش ولا في قيادة جيش، ولا رأي لهم في الحكم ولا في السياسة ولا في الإدارة. إنما هم مزرعة الحكام ومُسْتَغَلّ الولاة والأمراء. كلما تفتحت شهواتهم فعلى الرعية أن يجدوا سبيلا لملئها بالمال يجمعونه من كد يمينهم وعرق جبينهم. مركز الخلافة، وهو الآستانة، مفكك منحل، والولايات من مصر والشام والعراق والحجاز متدهورة متضعضعة قد أمات نَفْسَها توالي الاستبداد عليها. العلم فيها كتابٌ دينيٌّ شكليٌّ يُقْرَأ، أو جملةٌ تُعْرَب، أو متنٌ يُحْفَظ، أو شرحٌ على متن، أو حاشيةٌ على شرح. أما علوم الدنيا فلا شيء منها إلا حساب بسيط يستعان به على معرفة المواريث، أو قبس من فلك قديم يُسْتَدَلّ به على أوقات الصلاة. والسياسة فيها نزاع مستمر بين الأمراء، وكل أمير له حزبه، وكل حزب يتربص الدائرة بخصمه، والبلاد ضائعة بينهم. الوالي لا يطيل المكث إلا ريثما يغتني حتى أصبح اسم الحكومة والوالي والجندي مرعبا مفزعا مقرونا في النفس بمعنى الظلم والعسف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير