تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأعجب من هذا كله إلف الشعوب الإسلامية هذه الحالة السيئة واستنامتها إليها وكراهيتها لكل إصلاح: فإذا أريد إصلاح الجندية ثارت الإنكشارية، وإذا أريد إصلاح القضاء غضب العلماء. وعلى الجملة فقد كان العالم الإسلامي إذ ذاك شيخا هرما حطمته الحوادث، ونَهِكَه ما أصابه من كوارث: فساد نظام، واستبداد حكام، وفوضى أحكام، وخمود عام، واستسلام للقضاء والقدر، وترديد لقول الشاعر:

دَعِ المقادير تجري في أَعِنّتها * ولا تَبِيتَنَّ إلا خاليَ البالِ

فقد الدين روحه، وصار شعائر ظاهرية لا تمس القلب ولا تحيي الروح. سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام، وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية، والدين مظاهر شكلية، ووسيلة النجاح في الحياة ليست الجِدّ في العمل، ولكنِ التمسح بالقبور والتوسل بالأولياء، فهم الذين يُنْجِحون في العمل، وهم الذين يَنْصُرون في الحروب. والحارات مملوءة بالدجالين والمشعوذين. هذا هو الحال في الشرق، أما الغرب فلم يكن أصيب بكوارث الشرق. وقد بدأت أوربة تستيقظ منذ الحروب الصليبية، وتنشيء لها حضارة جديدة مؤسسة على العلم والحرية، وتتقدم في الصناعة، ويتدفق عليها المال من اكتشافها أمريكا وغيرها، وتخترع وترتقي في النظم الحربية على أساليب جديدة، وتنشيء الأساطيل الضخمة. حتى إذا شعرت بقوتها هجمت على الشرق بآلاتها وأسلحتها واختراعاتها فتساقطت أقطاره في يدها، وكانت إذا دخلت قطرا ضغطت عليه بكل قوتها، واستغلته لمصلحتها، وأجرت فيه الأمور على هواها. فكان من جراء هذا الضغط أن أخذ وعي الشرق يستيقظ، وطموحه يتوثب. وكان من طبيعة هذا أن يتقدم الصفوف زعماء للإصلاح يشعرون بآلام شعوبهم أكثر مما تشعر، ويدركون الأخطار المحيطة بها أكثر مما تدرك، ويفكرون التفكير العميق في أسباب الداء ووصف الدواء. وكل مصلح ينظر إلى المرض من زاويته ويدعو إلى مداواته حسب خطته، فكان من ذلك مصلحون مختلفون دَعَوْا إلى الإصلاح في أقطارهم على حسب بيئتهم وثقافتهم ومزاجهم. وكلٌّ قد أبلى بلاء حسنا، ولاقى من العناء ما لا يتحمله إلا أولو العزم: فمنهم من شُرِّد، ومنهم من قُتِل، ومنهم من رُمِيَ بالخيانة العظمى. فمن نادى بالمساواة بالعدل بين الرعية من غير نظر إلى جنس أو دين اتُّهِم بمحاربة المسلمين، ومن نادى بتنظيم الجيش على الأساليب الحديثة اتهم بالتفرنج والخروج على التقاليد، ومن نادى بتأسيس مجلسٍ شُورِىٍّ اتهم بمحاربة السلطان والحض على الثورة والعبث بالنظام، ومن نادى بإصلاح العقيدة والرجوع بها إلى أصل الدين اتهم بالإلحاد ... وهكذا، وهم على هذا صابرون مجاهدون، أحبوا مبدأهم في الإصلاح اكثر مما أحبوا الحياة، ولم يعبأوا بالعذاب يحيق بهم في سبيل تحقق فكرتهم، وظلت آراؤهم تعمل عملها في حياتهم وبعد موتهم حتى تحقق إصلاحهم ونفذت أفكارهم، وتقدم الشرق على أيديهم خطوات تستحق الإعجاب".

هذا ما قاله المرحوم أحمد أمين، لكنى أنظر إلى ما هو أمامى فأجد الصورة قاتمة، ولا أظنه كان يبقى على نفس الرأى لو كان حيا بيننا الآن: فالاستبداد فى العالم الإسلامى لا يزال فى أشد عنفوانه حتى إن الجمهوريات قد شرعت تتحول إلى ملكيات، وأخذ الرؤساء يورّثون السلطان لأبنائهم جهارا نهارا دون مبالاة بالشعوب، والشعوب ساكتة ساكنة ميتة المشاعر والوعى كأن الأمر لا يمسها فى قليل ولا كثير، ولا يعنيها من بعيد ولا من قريب. هذا فى السياسة الداخلية، أما فى ميدانها الخارجى فقد استولى اليهود على فلسطين، وعقد عدد من الحكام العرب والمسلمين مع إسرائيل معاهدات واتفاقات وبادلوها التمثيل الدبلوماسى بعدما غبر عليهم زمن كانوا يضحكون فيه على الجماهير المغيبة العقل بأنهم سوف يلقون بها فى البحر. كما عاد الاستعمار الغربى إلى بعض البلاد العربية والإسلامية مسفرا عن وجهه بكل جرأة ووقاحة، وإن كنا جميعا نعرف أنه كان موجودا طول الوقت فى كل البلاد تقريبا، ولكن على نحو مستور. وفوق ذلك فالفساد المالى والإدارى والتعليمى كبير، والفوارق بين الأغنياء والفقراء تزداد حدة، ومعظم الحكام يتصرفون فى مالية الدولة كأنها ملك شخصى ورثوه وراثة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير