أما بالنسبة إلينا فإن مصدر قوتنا , ودستور حضارتنا الذي تمسك به أولنا , فأعزهم الله؛ لا يزال محفوظا بحفظ الله , باقيا إلى ما شاء الله , وعلى هذا فإن نهضة الأمة الإسلامية احتمالا قويا يلوح في الأفق , ولكنه يظل رهن التفاتنا إلى الكتاب والسنة , لجعلهما دستورا لنا , لا شريك له من الأنظمة والنظريات الأخرى.
(وأما بالنسبة لسرعة انتكاس قوم موسى باتخاذهم العجل فقد كان ذلك قبل أن يأتيهم موسى بالألواح التي تمسكوا بمقتضاها زمنا بعد توبتهم من معصية اتخاذ العجل. يتضح ذلك من الآية رقم 150 الأعراف وما بعدها)
وعلى هذا فأنا أعارض كلمة (انهيار) التي تضمنها عنوان مقالك هذا , فالحديث عن تاريخ أمتنا بالجملة يوحي فعلا بما أشرتَ إليه من أن أية حضارة تنهض بقوة , وبفورة حماس شديدة , ثم تخبو إلى أن تتهاوى فتنهار. ولكني أرى أن من الإنصاف تتبع جزئيات التاريخ لتكون الرؤيا أعمق وأدق. ففي تاريخ أمتنا ثمة نهوض وقوة , ثم ضعف فسقوط , متكرر الحدوث , حدث ذلك في حقب مختلفة. وهو مسلسل تكرر مع الدولة الأموية وكذلك العباسية والأيوبية والقرامطة والعثمانية وغيرهم. ومن هنا ندرك أن حالنا ـ مهما كان مؤلما ومهما حكمنا عليه بأنه إنهيار ـ فليس هو بالنهاية , وإنما هو مخاض لبداية أخرى , ولمجد آتٍ بإذن الله. مقدار قوته واستمراره يقاس بمدى تمسكه بشرع الله. وسيُحكم عليه بالضعف متى ابتعد عن شرع الله , فيظل يتخبط مترنحا ما طال ليله , وسيظل فجره متهيأ , ينتظر أن يؤذن له بالبزوغ بمجد آخر جديد.
·: استشهدت بقوله تعالى:
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَصَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُواأَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ". لكن سرعان مانزلت الآية التى بعد آيتنا هذه مباشرة تقول: "الآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْوَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌيَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِبِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" هابطة بالنسبة من واحدٍ مقابلَعشرة إلى واحدٍ مقابلَ اثنين. وبطبيعة الحال لا يمكن أن يفهم عاقل أن الله سبحانهلم يكن يعلم قدرة المسلمين وحدود طاقاتهم القتالية قبل هذا ثم علمها بعد أن رأىمنهم شيئا لم يكن يتوقعه
وقد أعجبني تحليلك لهذا الموضوع حين قلت: وهو، جل فى علاه، يعرف أن للطاقة البشرية حدودافى التفوق والاستمرار مهما كانت المغريات والدوافع. ببساطة لأنه هو الذى خلقهم علىهذا المنوال لحكمة يعلمها. وهو سبحانه يعلم أن تلك الفورة الأولى لا يمكن أن تستمردون أن يعتريها فتور ولا كلل، لكنه يعلم أيضا أن هذه هى الطريقة المثلى لاستفزازطاقات المؤمنين فى فورتهم الأولى.
ولكني وبناءا على ما طرحتُه من وجهة نظري الآنف الحديث عنها , أضيف على ما ذكرتم في هذه الجزئية: أن الله سبحانه وتعالى قد ترك هذا النموذج المشرف للمسلم القوي المتناهي في القوة لا ليناسب استفزاز طاقة المؤمنين في الفورة الأولى فحسب , وإنما ليكون أيضا نموذجا مستفزا لطاقات المؤمنين في كل فورة تولد في الأمة في أي زمان ومكان.
· إن الحضارات القوية التي تتباهى بمجدها حولنا اليوم لا تقارن ـ من وجهة نظري ـ بقوة حضارة أمتنا بالأمس , لأن هؤلاء المعاصرين لنا إنما توفرت لهم ثورة تكنولوجية ومعلوماتية واتصالية ليست بالهينة , يسهل معها مراقبتهم لكل شبر من أراضيهم ودراسته , والعمل على سرعة التعامل مع مشاكله قبل تفاقمها , لكن في أمسنا المجيد كانت أخبار بعض الأقاليم تصل إلى خليفة المسلمين بعد شهر من حدوثها , ثم تعود الرسل بأوامر الخليفة إلى تلك البقعة بعد مرور الشهرين تقريبا.
فكيف نجح هؤلاء في تسير حكمهم رغم الصعوبات؟
إن السبب خلف نجاحهم يكمن في أن دستورهم كان دستورا ربانيا , دستورا بينا واضحا. يعلو ولا يعلو على حكمه حكم أحد من البشر , حتى وإن كان الخليفة ذاته.
¥