قد انخدع بعض الفقهاء المسلمين المعاصرين باصطلاح (الملكية الأدبية أو الفنية) وباصطلاح حق المؤلف فحاولوا أن يخرجوا هذا الحق القانوني على أحد الحقوق المقررة في الشريعة الإسلامية وبالغ بعضهم في ذلك حتى حاول تخريج الأحكام التفصيلية لهذا الحق القانوني على الأحكام الفقهية، فإذا كانت القوانين مثلاً تجعل مدة محددة لاستغلال الورثة حق المؤلف فقد رأى هذا الفقيه أن (أقصى مدة لاستغلال الورثة لحق الإنتاج العلمي المبتكر ستون عاماً من تاريخ وفاة المؤلف مورثهم اعتباراً بأقصى مدة للانتفاع عرفها الفقه الإسلامي في حق الحكر) ("حق الابتكار في الفقه الإسلامي المقارن" للدكتور فتحي الدريني: ص 121).
كما أن بعضهم لم يلاحظ طبيعة البيئة التي صدرت فيها القوانين الغربية المنشئة لهذا الحق القانوني، ولا مدى تأثر هذه القوانين بالدوافع والاعتبارات والقيم السائدة في تلك البيئة.
9 - إذا تذكرنا أن هذا الحق أنشأه القانون، وأنه قبل أن يصدر القانون الذي يقرره وينظم حمايته، لا وجود له، وإذا تذكرنا أن القانون إذا منح حماية الحق لنوع من المؤلفات ثم سلبها هذه الحماية فإن حق المؤلف ينعدم في هذه الحالة بالنسبة لهذا النوع من المؤلفات، إذا تذكرنا ذلك عرفنا مدى الشطط في تخريج الحق القانوني للمؤلف على أنه حق ملكية أو حق انتفاع بما يملك أو أيّ حق آخر قررته الشريعة الغراء من الحقوق الباقية الدائمة والتي لا يملك القانون إلغاءها أو سلبها الحماية.
10 - وإذا كانت طبيعة الحق القانوني المالي للمؤلف كما وصفنا فلعلّ أسلم تكييف لهذا الحق هو تكييف محكمة النقض الفرنسية حيث كيّفتْه بأنه (حق امتياز احتكاري) أو كما عبر أحد فقهاء القانون أنه (احتكار استغلال المؤلف لمدة مؤقتة).
على أنّ كلمة الحق – وإن كانت قد استعملت على الدوام – قد تعطي إيحاءات غير مقصودة وقد تكون مضللة فلذلك ربما كان الأسلم في نظر كاتب هذه المقالة أن تبدل بكلمة (سلطة أو مكنة) لأن غاية ما أعطى القانون المؤلف سلطة في احتكار استغلال مؤلفه لمدة مؤقتة هي مدة حياته وسنوات محدودة بعد وفاته.
وإذا روعي هذا المعنى فإنه يصلح تفسيراً لعدم تقيد التقنين المصري بأحكام الشريعة بالنسبة للوصية بهذا الحق القانوني، وربما كان هذا في ذهن كاتب التقنين وشارحه الدكتور/ السنهوري حين كتب (والسبب أن المشرع قرر هذا الحكم دون أن يتقيد فيه بأحكام الشرع الإسلامي أن حق المؤلف في الاستغلال المالي لمصنفاته هو حق معنوي يقع على شيء غير مادي فهو إذن ليس من قبيل الأموال التي تقع على الأشياء المادية والتي ينظر الشرع إليها وحدها في تقرير أحكام الميراث والوصية، ولما كان المصنف هو نتاج فكر المؤلف فهو ألصق به من أمواله التي تقع على أشياء مادية، ولذلك كان أكثر حرية في التصرف فيه بالوصية فقد يرى أن شخصاً معيناً أولى بأن ينتقل إليه حقه المالي في استغلال مصنفه (الوسيط: 8/ 297).
معنى الكلام أن الحق المالي للمؤلف لو كان حقاً كسائر الحقوق المقومة بالمال التي قررتها الشريعة الإسلامية لاحتسب في الثلث الذي يجوز له أن يوصي به، ولما جاز أن يختص به أحد الورثة.
11 - يتخلص من كل ما سبق الحقائق الآتية:
أ - أن القانون هو الذي ينشئ الحق المالي القانوني للمؤلف وهو الذي بيده بقاء هذا الحق أو فناؤه، وهو الذي يحدد نطاقه سواء بالنسبة للزمان أو للمكان أو نوع المؤلف أو نوع الانتفاع به.
ب - أن غاية منح القانون هذا الحق منح سلطة الاحتكار للمؤلف أو خلفه في استغلال المؤلف لمدة محدودة.
جـ - القانون يتأثر في وضعه وفي تفسيره وفي حدود تطبيقه بالبيئة التي نشأ فيها، فالقانون الذي ينشأ في بيئة النظام الرأسمالي ليس حتماً مثل القانون الذي ينشأ في بيئة النظام الإسلامي، والقانون الذي يصدر عن سلطة علمانية (لادينية) يختلف قطعاً عن القانون الذي يصدر عن سلطة مقيدة بمبادئ الدين وقواعده وأحكامه.
د - نتيجة ما سبق أن القانون في حالة الدولة العلمانية لا يجوز أن يفسر أو ينفذ بما يخالف روح الثقافة السائد، أو ما يعارض مبادئ القانون الطبيعي، أو القواعد الدستورية (النظام الأساسي) في الدولة التي أصدرته.
¥