على أنّ كل ما سبق لا يعني أن مشترع تلك القوانين لا يلقي في كل حال بالاً للاعتبارات الأخلاقية ومن أهمها العدل ورعاية المصلحة العامة، بل هو يغفل ذلك.
فإذا كان دافعه لتقرير حق المؤلف وحمايته اكتشافه أن القيمة الأدبية للتأليف تمثل عنصراً مهماً وربما العنصر الأهم في القيمة المالية لعمل الناشر أو منظم المسرح، أي أن عمل المؤلف ساهم في ربحهما وتكوين ثروتهما، ولذا رأى أن العدل يوجب أن يشرك المؤلف الناشر ومنظم المسرح في الربح الذي ساهم تأليفه في تحقيقه وذلك أوجب في تقديره أن يحمى حق المؤلف بإعطائه سلطة احتكار تأليفه بحيث يحجب استغلاله تجارياً إلاّ بمقابل.
إذا كان دافعه ما ذكر فقد لاحظ أن دوافع أخرى توجب كسر هذا الاحتكار، ومن هذه الدوافع: العدل ورعاية المصلحة العامة.
يوضح هذا المعنى السنهوري بقوله: " الإنسانية شريكة له (أي للمؤلف) من وجهين:
- وجه تقضي به المصلحة العامة: إذ لا تتقدم الإنسانية إلاّ بفضل انتشار الفكر (والاحتكار يحدد انتشاره).
- ووجه آخر يرجع إلى أن صاحب الفكر (المؤلف) مدين للإنسانية إذ فكره ليس إلاّ حلقة في سلسلة تسبقها حلقات وتتلوها حلقات، وإذا كان قد أعان من لحقه فقد استعان بمن سبقه ومقتضى ذلك أن لا يكون (حق المؤلف) حقاً مؤبداً. (الوسيط 8/ 281).
كما رأينا هذا النص يوضح كيف أن اعتبار المصلحة العامة والعدل أوجبا أن لا يمنح القانون المؤلف حقاً مطلقاً.
8 - اختلف فقهاء القانون في الغرب في تكييف الحق المالي للمؤلف، وكالعادة وجد طرفان متباينان في النظر:
أحدهما: يغلو في تأكيد حق المؤلف مراعياً الحاجة إلى الكفاح – ضد الأفكار السائدة – لتقرير هذا الحق.
والآخر: يمانع في التسليم بهذا الحق.
وكان من نتيجة ذلك أن الطرف الأول جنح إلى تكييف هذا الحق بأنه حق وقدرة ملكية بما يعنيه من استئثار وقدرة على الاستغلال والتصرف فسمي هذا الحق (الملكية الأدبية والفنية).
يقول الدكتور السنهوري: (إذا كان المقصود بعبارة "الملكية الأدبية والفنية" هو تأكيد أن حق المؤلف يستحق الحماية كما يستحقها المالك، وهذا هو المعنى الذي قصد إليه أولاً عند ما استعملت العبارة للدعاية والكفاح في سبيل حماية حق المؤلف فهذا صحيح، وأما إذا كان المقصود أن حق المؤلف هو حق ملكية حقيقي فهذا أمر يحتاج إلى إمعان النظر، ذلك أنّ الشيء غير المادي هو شيء لا يدخل في عالم الحس، ولا يدرك إلاّ بالفكر المجرد فهو حتماً يختلف في طبيعته عن الشيء المادي الذي يدرك بالحس وله جسم يتمثل فيه، فإذا تصورنا أن الشيء غير المادي وهو الفكرة من خلق الذهن وابتكاره أدركنا المدى الواسع الذي يفصل بين عالم الفكر وعالم المادة، فالمادة تؤتي ثمارها بالاستحواذ عليها والاستئثار بها، وأما الفكر فيؤتي ثماره بالانتشار لا بالاستئثار ...
وتتنافى طبيعة الملكية مع طبيعة الفكر من جهتين:
الناحية الأولى: أن الفكر لصيق بالشخصية بل هو جزء منها ومن ثَمَّ فقد وجب تقييد الفكر بهذا الاعتبار الأساسي، فيوجد بجانب الحق المالي للمؤلف الحق الأدبي وهذا الحق من شأنه أن يمكن المؤلف حتى بعد أن يبيع حقه للناشر أن يعيد النظر في فكره وقد يبدو له أن يسترد من التداول ما سبق نشره، بل وله أن يتلفه، بعد أن يعوض الناشر، وبذلك يستطيع أن يرجع بإرادته المنفردة فيما سبق له إجراؤه من تصرف، وأما من يتصرف في شيء مادي تصرفاً ثابتاً فليس له بإرادته وحده أن يرجع في هذا التصرف ولو في مقابل عوض.
الناحية الثانية: أن الفكر حياته في انتشاره لا في الاستئثار به، فالإنسانية شريكة له من وجهين: - وجه تقضي به المصلحة العامة ... - ووجه آخر يرجع إلى أن صاحب الفكر مدين (بفكره) للإنسانية ... (الوسيط: 8/ 278 - 281).
¥