تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ألا إن الإنصاف ثلث الإيمان لما روى البخاري تعليقًا عن عمار قال: " ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإكثار والحديث " رواه أصحاب السنن، ولا نبعد النجعة إذا قلنا: بل هو الإيمان كله لأن من أنصف سلم وأنفق، بل إن من أنفق آمن واستقام وآمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولا .. أفترونه وهذه الحال يظلم أو يغش؟ أترونه يشح أو يبخل؟ أترونه يحابي أو يماطل؟ أترونه يتحيز أو يتعصب؟ أترونه يدع المحاسن ويقع في سفساف الأمور؟

إن المنصف لبعيدٌ عن ذلك كله .. ولكن أين هذا المنصف في عصر العولمة؟ وأين هذا المنصف في عصر المادة وطغيان الهوى والشهوة؟ ولقد صدق من قال:

ولمْ تزَلْ قلةُ الإنصافِ قاطبةً ... بيْن الرجالِ وإنْ كانُوا ذوِي رَحِم

قال الإمام مالك - رحمه الله -: "ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف " .. قال القرطبي - رحمه الله - معلقا على كلام مالك: " هذا في زمن مالك .. فكيف في زماننا اليوم الذي عم فيه الفساد وكثر فيه الطغام؟! "؛ أي أوغاد الناس .. ونحن نقول عباد الله: إن زمن مالك - رحمه الله - كان في القرن الثاني الهجري وزمن القرطبي - رحمه الله - كان في القرن السادس .. فما الظن بزماننا هذا؟! ألا إن الهوة أشد والخطب أفجع؛ فإلى الله المشتكى وعليه التكلان.

ألا إن من لم ينصف لم يفهم ولن يتفهم، ومن أجل أن ندرك صحة كلام مالك والقرطبي فلننظر إلى زماننا حينما يضع أقوامٌ أوصافًا للحق لا تنطبق إلا على ما يفعلونه أو يقولونه ليكون ما يفعله غيرهم ويقوله هو الخطأ والباطل .. مع أن الحق أوسع منهم والصواب يتعداهم إلى غيرهم لكنهم يرون أنهم ناطقون حصرياً باسمه، وقد يقارفون غداً ما كانوا يرونه خطأً عند الآخرين وهم مع ذلك يرون الكلمة الأخيرة لهم .. أمثال هؤلاء يصنعون لأفكارهم هالةً من أجل تسويقها ويُجيِّشون لها من الأقلام والألسن ما يعقرون به من خالفهم، ويجعلون الناس بناءً على منهاجهم إلى فسطاطين: فسطاطٍ معهم وفسطاطٍ ضدهم، وهم يدركون أن عموم الناس لا ذاكرة لهم ليستعيدوا الماضي القريب فضلا عن الماضي البعيد ليدركوا هذا التضاد أو ذلك التناقض .. وإن كان بعض الناس لا ينسون لكنهم يجاملون رغبةً أو رهبةً أو أنانيةً على حد قول القائل أنا "ومن ورائي الطوفان"، ومن شاء أن يمتحن أحدًا في الإنصاف فليخالفه في أشد ما يقوم عليه هواه وتدعو إليه شبهته وشهوته لينظر كيف يكفهر ويزمجر فيجلب أصوات الناعقين معه، ويجلب بخيله ورجله ليجعل منها قضيةً تفسد كل المعايير وتقضي على مبدأ الإنصاف قضاءً مبرما.

هذا هو الإنصاف - عباد الله - وجودًا وعدما .. إن قليل الإنصاف مذمومٌ على ألسن الناس مكروهٌ سماع اسمه في الآذان بغيضةٌ رؤيته بالأعين .. تتقى مجالسته وتدرأ مجاورته .. لحمه منهوش في نوادي الناس وعرضه مهريٌّ كلما طرأ ذكره بينهم .. لا يداري الناس اسمه ولا رسمه .. ودوا لو أن بينهم وبينه أمدًا بعيداً والناس شهود الله في أرضه .. فمن ترك الإنصاف وأحب الانفراد وآثر النفس على كل شيءٍ حتى على الحق فليكبر عليه أربعًا لوفاة قيمة الإنصاف في نفسه .. وإننا لو دققنا النظر في أجمع أسباب في عدم الإنصاف بين الناس لوجدنا الحسد أسها وأقنومها؛ إذ لا يتأتى الإنصاف من حاسد، كما أنه لا يتأتى الظلم والجور من محبٍّ للغير.

والحسد - عباد الله - بحد ذاته داءٌ منصف كما قال الأصمعي - رحمه الله - لأنه يفعل بالحاسد كما يفعل بالمحسود، بل هو عباد الله كرجع الصدى لما تنطق به .. فإن نطقت رد عليك رجع الصدى بالإنصاف، وإن نطقت بعدم الإنصاف رد عليك رجع الصدى بعدم الإنصاف، والجزاء من جنس العمل

كمَا تدينُ صَاحِبي تُدان **** إنَّ جزاءَ إحسانِنَا الإحسان

إذَا مَا رُمْتَ إِنْصَافًا تُسَرُّ لأجْلِه **** فكُنْ مثلَمَا ترجُو مِنَ الِإنصَاف

فإنَّ رجَالًا قَدْ سَمَو بِبُلُوْغِه **** وفَرَّطَ فِيْهِ جمُلةُ الأنْصَاف

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90 النحل).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير