والصالحون لا أذى منهم، بل خلطتهم فيها كل الخير والهدى، لذلك فلا عزلة عن الصالحين، بل بقدر ما يستطيع أن يخالط الضعيفُ المبتدئُ الصالحين بقدر ما يترقى وينتفع ويتزكى ويزداد إيماناً.
روى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفتنة فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الناس قد مرجت عهودهم وخفَّت أماناتهم وكانوا هكذا وشبك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله تبارك وتعالى فداك، قال: الزم بيتك، وابك على نفسك، واملك عليك لسانك، وخذ ما تعرف ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة» (4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ورأيت أمراً لا يدان لك به فعليك خويصةَ نفسِك، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن على مثلِ قبضٍ على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون بمثل عمله» (5). وخاصة الإنسان وخويصة نفسه: هم أصحابه الذين يختصهم، فيتناصح معهم ويتعاون معهم على الحق والخير، ويتجنب من سواهم من العامة.
وسنبين أهمية الخلطة بالصالحين والشيوخ المربين بعد بيان أحكام العزلة والخلطة.
والصور المحتملة في قضية الخلطة والعزلة ونفعهما وضررهما أربع صور نبينها ونبين حكمها:
الحديث الذي ذكرناه تحدث عن حالتين ولم يذكر حالتين، قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» , وهناك حالتان متصورتان في الذهن يمكن أن توجدان في الواقع: الأولى: أن يخالط ولا يصبر، والثانية: أن لا يخالط الناس وهو قادر على أن يصبر, فهذه أربع حالات:
1. الحالة الأولى: أن يكون مخالطاً للناس وهو قادر على تحمل الفتنة والصبر على الأذى، وحكمه: أن الخلطة خير له، وله أجره في صبره وتحمله، وخير منه: من يتحمل ولا يتأثر بالشر والفتنة والباطل، ويكون قادراً على أن يؤثر في غيره، ويَدْعُوْهم ويردُّهم إلى الحق والخير والهدى.
2. الحالة الثانية: أن يكون مخالطاً للناس وهو غير قادر على تحمل الفتنة، فيتأثر بالباطل وأهله، ويتراجع حاله ويضعف إيمانه بالخلطة، وقد يؤذي غيره، وحُكْمُه: أن الخلطة شرٌّ له، فوجب عليه أن يقتصر على الحد الأدنى من الخلطة، فلا يخالط إلا قدر الضرورة.
ويجب على من يترك الخلطة أن يجعل عزلته في طاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إليّ» (6)، والهرج: الفتنة أو القتل بغير حق، فليس المهم أن تعتزل الفتنة فقط، بل أن تكون في عزلتك هذه مشتغلاً بالعبادة، حتى تترقى وتزداد قرباً من الله وتزداد مراقبة لله وخوفاً منه وتعظيماً له ولحُكْمِه، فتصل إلى درجة القادر على أن يخالط الناس ويُؤَثِّرُ فيهم ولا يتأثر بأذاهم وفسادِهم، أما إذا لم يغتنم عزلته في الطاعة والعبادة والذكر والمجاهدة، فإنها لا تزيده إلا هوى وشهوة وبعداً عن الله، فمن لم تشغله الطاعة شغلته المعصية والشهوات، أو أخذه اللهو والغفلات.
وأما من لا يقدر على الصبر مع المخالطة؛ فلا يجوز أن يقال له: يجب أن تخالط، لأن في ذلك هلاكَه وتراجعَ حالِه ونقصانَ تزكيته، فإن مخالطةَ الناس مع تضييع المقصد الصحيح غيرُ جائزة، كما أن العزلة عنهم لمقصد غير صحيح غير جائزة، فالخلطة لها مواضعها والعزلة لها مواضعها، وإن كان الأصل في الحياة هو الاتصال بالناس والخلطة معهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد تحدث عن هذه الحالة في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه فقال: قال رَجُلُ أَيُّ النَّاسِ أفضَلُ يارسولَ الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «مُؤْمِنٌ مجَاهِدٌ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ في سبيل اللَّه» قال: ثم من؟ قال: «ثم رَجُلٌ مُعتَزِلٌ في شِعْبٍ مِن الشِّعَاب يَعبُدُ رَبَّهِ»، وفي روايةٍ: «يتَّقِي الله، ويَدَع النَّاسِ مِن شَرّْهِ» (7).
والإنسان الذي يخالط ولا يصبر، فيُؤذي الناس ويُفسد، فالأَوْلى له أن لا يخالط، لكن لا يجوز له أن يبرر لنفسه أن يبقى على هذا الحال من عدم المخالطة، وإنما يُصلِح نفسه حتى يصير قادراً على المخالطة، ويزكي نفسه حتى يرتقى إلى أن يصير قدوة وداعية.
¥