3. الحالة الثالثة: أن يكون معتزلاً للناس وهو لو خالطهم يصبر ولا يتأذى ولا ينقص إيمانه، فحكمه: أن الخلطة خير له وأعظم أجراً، وتكون سبباً في نفع غيره، ومن كان كذلك فالأولى في حقه الخلطة، وعليه أن يجتهد جهده في الدعوة إلى الله والتأثير في غيره بالخير، إن كان قادراً على ذلك.
لكن لا يجوز أن تكون الخلطة في كل وقت فتصير على حساب الواجبات الفردية وعلى حساب الأعمال التي تقوي إيمان الإنسان وتثبته؛ من النوافل والأعمال الصالحة في الأوقات المباركة وفي غيرها، فالنبي صلى الله عليه وسلم رغم دعوته وجهاده لم يشغله ذلك عن قيامه من الليل ولا عن تلاواته ولا عن خلواته اليومية، لذلك أمره الله أن يعتذر من أصحابه ليؤدي هذه العبادات الخاصة في خلواته، فقال سبحانه: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28].
4. الحالة الرابعة: أن يكون معتزلاً للناس وهو لا يصبر على أذاهم ويتأثر في دينه وينقص، فحكمه: أن العزلة خير له، حتى لا يأثم، بسبب عدم صبره ونقصانِ إيمانه ووجودِ ما يدفعه إلى المعاصي، وعليه أن يجتهد في عزلته في العبادة، كما بينّا، عسى أن يرقى إلى أن يصير كالأول مُؤثِّراً لا مُتأثِّراً.
- وعلى طالب التزكية أن يجتنب كل مجلس يكون على حساب خيره وصلاح نفسه، فإذا كانت مجالسة الناس فيما لا ينفع على حساب الطاعة والعلم والذكر وقيام الليل، فينبغي اجتنابها، اغتناماً للعمر وأوقاته، ويقتصر في مجالس الناس التي يُضطَر إليها على الحد القليل، ولا يطيل فيها ما استطاع، ومن لم يغتنم وقته وأضاع عمره بزيارة غير نافعة هنا وهناك؛ لم يجد وقتاً لطلب علم ولا لقيام ليل ولا لذكر، خاصة مع قلة بركة الوقت في زماننا.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم لمن كان يُفتن في دينه إذا خالط الناس أن عليه أن يعتزل أسباب الفتنة، ولو أن يتخذ البادية بدل المدينة مسكناً وموطناً، فقال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم، يتبع بها شعف الجبال ومواطن القطر (8)، يفر بدينه من الفتن» (9).
وخلاصة الأمر التي نستنتجها من النصوص السابقة الواردة في شأن الخلطة والعزلة؛ أن على طالب التزكية المبتدئ أن يترك صحبة الأشرار ومجالس السوء، ويقلل الاختلاط بالناس إلا لضرورة، ويقلل الزيارات ويقصِّر وقتها، ويحرص على زيارة الصالحين ومجالس الخير والعلم، ويقلِّل العلاقات الاجتماعية قدر الإمكان، ويجتهد فيما وجد من أوقات في الطاعة والذكر والتفكر والتقرب إلى الله.
فائدة قلة الخلطة بالناس للمبتدئ:
من أعظم الفوائد من قلة خلطة الطالب لتزكية نفسه أنها تهيئ الجو المناسب للتفكر، بحيث يتفكر في نفسه وحق ربه وإعداده لآخرته، فلا يبقى على عاداته من غير أن يعرف ما ينفعه وما لا ينفعه، وتهيئ الجو للاجتهاد في الطاعة، وتعين على التجرد عن أسباب الشهوة والأمراض القلبية والمعاصي، وتبعد عن الشواغل والقواطع والعلائق والهموم، التي تَحُولُ دون ترقِّي الإنسان، وتمنعُ قوة التعلق بالله.
فالمبتدئ إذا كثر اختلاطه بالمجتمع والبيئة المريضة؛ لا يزال يقع في المعاصي والغفلة، فيزداد بعداً عن الله، ويُحال بينه وبين الخير والطاعة والتوبة، أو يَطول عليه الطريق ويصعب ويجاهد نفسه كثيراً ويكبو.
ومثال الذي يقلل خلطته والذي لا يقلل من الخلطة مع لزومها له: كمثل الطالب الذي يتخصص في علم من العلوم، فالطالب يبقى في غمرته وخلوته، منشغلاً بدراسته، لا يقول تعلمتُ قليلاً فيجب أن أشتَغِل بتعليم غيري من علمي القليل، فإنه إن فعل ذلك ضَعُف طَلَبُه للعلم أو توقَّف، وكان خيره لنفسه ولمجتمعه قليلاً فيما لو قارنّاه بخير من اعتزل تدريس الناس حتى أتم دراسته، ثم نَفَعَهم بعلم واسع ودراية كاملة.
وكذلك الذي يتفرغ لتزكية النفس ولتحصيل مقام الإحسان، ويخفف علاقاته لأجل العلم والعبادة والتقرب إلى الله، فالمتوقع أنه يكون نفعه بعد خروجه إلى الناس عظيماً، بعدما يستتمُّ علاج أمراض قلبه ويتزكى من معاصيه ويستقيمُ على طاعاته.
¥