ـ[سليمان أبو ستة]ــــــــ[09 - 10 - 2009, 05:12 م]ـ
لقد كان ينقص بحث الدكتور يوسف بكار، حول مدى تأثير الإشعاعات الثلاثة على العربية، قدر من الاقتناع الذاتي بواحد من الآراء المتباينة التي كان يعرضها علينا. ولم يبد لي ذلك الاقتناع واضحا إلا في حديثه عن الإشعاع اليوناني؛ وذلك من خلال تعقبه أصحاب الآراء المؤيدة لوجود ذلك التأثير.
وبين يدي الآن دراسة لاحتمالات التأثير الأجنبي للدكتور أحمد مختار عمر ضمنها كتابه "البحث اللغوي عند العرب" (الطبعة الثانية – عالم الكتب – 1976م) وقد تناول فيها قضية التأثير والتأثر من كلا الجانبين، وكان صوته واضحا فيها وهو يرجح رأيا على آخر، الأمر الذي كنت أود لو أن الدكتور بكار التفت إليه وأفاد منه وأضافة إلى مراجع كتابه.
يبدأ الدكتور أحمد مختار عمر بحثه بالتنبيه إلى أنه "ليس من السهل ونحن نبحث قضية التأثير والتأثر أن نصل إلى نتائج قطعية وحاسمة، لأن مشكلة التأثير والتأثر من المشكلات الشائكة التي يصعب علاجها، وخصوصا إذا كانت تتناول موضوعا مضى عليه مئات السنين".
ثم ينبه إلى أمرين، الأول: "أنه لا يصح - حين يجد الباحث تشابها بين عملين- أن يعوّل على مجرد السيق الزمني ويتخذه دليلا على تأثير السابق في اللاحق. فالعقل البشري هو العقل البشري في أي بقعة من أنحاء العالم ... وقد يتشابه العملان ويظل كل منهما أصيلا في ذاته".
والثاني:"أن كثيرا من الأحكام التي أطلقت حول قضية التأثير والتأثر قد أثبتت الأيام خطأها – أو على الأقل قدمت ما يشكك فيها. ومن ذلك ما كان يظن من اسبقية الهنود في علم الفلك، وقد قال غوستاف لوبون عن ذلك: "ما كان يقال حول قدم علم الفلك الهندوسي ودقته من الأفكار، قد أهمل تجاه الدراسات التامة، فأصبحت هذه الأفكار غير جديرة بعناية أحد". بل أكثر من هذا يرى غوستاف لوبون أن القضية بالعكس وأن هناك قسما كبيرا من المعارف العلمية قد نقله المسلمون إلى الهند أو الصين ثم عده الأوروبيون فيما يعد من أصل هندوسي أو صيني".
ويشير الدكتور أحمد مختار عمر إلى أنه "ليس هناك احتمال تأثير هندي على فن المعاجم، بل العكس هو الاحتمال القائم". ويستشهد في سبيل إثبات هذه الفكرة بأقوال عدة علماء منهم Haywood في قوله: "ومن العدل أن نقول إن فترة النشاط المعجمي الكبير في الهند كانت في القرن الثاني عشر، وهو وقت كان العرب فيه قد أنتجوا بعضا من معاجمهم العظيمة". وكذلك Weber في قوله: "إن المعاجم السنسكريتية بالمعنى العلمي لم تظهر إلا في وقت متأخر".
وفيما يخص تلك اللمحة التي ركز عليها القائلون بحدوث تأثير هندي في ترتيب أصوات العربية على نسق ترتيبها في الألفباء الهندية يتوسع الدكتور أحمد مختار عمر في تحليل هذه القضية ويخرج لنا بالنتائج التالية (ونظرا لأهمية مناقشته أنقل نصه كاملا تقريبا):
1 - إن الترتيب الصوتي عند الخليل – وغيره من اللغويين العرب – يختلف اختلافا كبيرا عن ترتيب الهنود. فقد ضمت الألفباء الهندية 51 حرفا وبدأت بالعلل (بدأ الخليل بالسواكن)، واشتملت على رموز للعلل القصيرة (لا توجد في الألفباء العربية)، وعلى رموز للعلل البسيطة والمركبة (لا رموز للمركبة في العربية)، ووضعت أصوات الصفير في آخر الحروف الساكنة (ما يقابلها في العربية، وهو ص – س – ز قد وضع في مكان وسط) واعتبرت الأصوات ي – ر – ل من أشباه أصوات العلة ووضعتها متتالية بالترتيب السابق (في حين أن الياء وضعت مع أحرف العلة في ترتيب الخليل وفصلت الياء عن اللام والراء بالضاد في ترتيب ابن جني).
ومعنى هذا أن الخليل، وإن كان من المحتمل أن يكون قد سمع بالترتيب الصوتي الهندي فقد خالفه حين التطبيق، ويبدو أنه اهتدى بذوقه وحسه الفطري إلى الترتيب الذي توصل إليه. ويؤيد ذلك ما رواه الليث في مقدمة العين عن كيفية اهتداء الخليل إلى هذا النظام، ونص عبارته: "فدبر ونظر في الحروف كلها وذاقها فصير أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق. وإنما كان ذواقُه إياها أنه كان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو أب – أت – أح – أع – أغ فوجد العين أدخل الحروف في الحلق فجعلها في أول الكتاب، ثم قرب منها الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها وهو الميم". ثم يشرح الليث كيف وردت الفكرة إلى ذهن الخليل، وكيف قلب النظر فيها حتى انتهى
¥