ولا حاجة للخوض في أكثر من هذا, من مدة لبثه متكئا على "عصاه", سواء بقول من قال: شهرا, أو سنة, أو أربعين سنة. فليس عندنا من الله أو من رسوله في هذا شيء, واختلافهم دليل على أن لا نص عندهم من الله ورسوله, وإنما العلم ما قال الله وقال رسوله.
فظاهر الآية يشير بشكل جلي, أن من استدل على موته, ممن حضره, إنما استدل بما رآه من أن دابة الأرض "تأكل" منسأته, بالفعل المضارع, فهو استدل على الموت من الفعل الحاضر في الأكل, لا بعدما مضى الفعل وصار ما صار!.
فعندما رآى الدابّة "تأكل" المنسأة, علم أن سليمان قد مات, أي قبل أن يخرّ سليمان, وإنما أفاد الخرّ شيئا آخر يخص الجن, بأنهم لا يعلمون الغيب, {فلما خرّ تبيّنت الجن} , أما دلالة الموت فكانت حاصلة قبل الخرّ, بأن "الدابة" "تأكل" "المنسأة"!!.
إذاً في القصة شيء آخر غير ما يروى, فما هو؟.
فما "المنسأة" إذاً؟.
"المنسأة" على وزن مِفعلة, وهو الوزن الذي تستعمله العرب للدلالة على اسم الآلة, فتقول: مِجرفة, ومِكنسة, إذا قصدت آلة الجرف وآلة الكنس, فما "المنسأة"؟.
"المنسأة" اسم آلة للنّسأ, فما "النسأ"؟.
"النسأ" في القرآن "الزيادة" أو "التأخير" في "الزمن", ومنه "ربا النسيء", ومنه آيه سورة التوبة {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ} (37) سورة التوبة. وهو ما كانت تفعله العرب من "زيادة" الفترة و"تأخير" الشهر الحرام لحاجة عندهم, فهذا "التأخير" وهذه "الزيادة" هي النسأُ والنسيء.
فما علاقة "المنسأة" و"الأجل" إذا؟.
الملاحظ أن هذه الآية جاءت بعدما ذكر الله متعلق الزمن, "الشهر", بريح سليمان في الآية التي تسبقها {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. (12) سورة سبأ. وسبق وأشرنا إلى علاقة "النسأ" والزمن المتعلق بـ"الشهر" الوارد في سورة التوبة.
ولن تجد من يماري بمثل هذه العلاقة, إذا علمت أن الآية التي تسبق آية "النسيء" في سورة التوبة مباشرة هي هذه الآية {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} (36) سورة التوبة. فهذا هو "الزمن" وهذا هو "النسأ" مرة أخرى!.
وكما أن العلاقة لازمة بين "الشهر" و"النسأ" في "التوبة", فهي كذلك في "سبأ".
ثم هذا حديث النبي عليه الصلاة والسلام, يقضي بيننا بالحق:
"صلة القربي مثراة في المال؛ محبة في الأهل؛
منسأة في الأجل"!.
فمن منا لا يرى استعمال النبي عليه الصلاة والسلام "للنسأ" حينما أراد الحديث عن "الأجل"؟!. و"الأجل" بلا ريب, هو ما يطلق على "الزمن المحسوب", من .. إلى؟.
أما من استدل بشيء من الشعر على أنها العصا ووقف عندها, فلم يعدل, إذ لم يقل لنا لمَ لمْ يقل الله "عصاه"؟ , والاستدلال بالحديث فوق الاستدلال بالشعر بلا خلاف.
ولا نقول بالضرورة إن المنسأة ليست عصا, فلا يمنع أن تكون على "هيئة" العصا, ولكن بحثنا ومرادنا عن مطلب "المنسأة" ودلالة الآلة منها، وما وراءها, وما كانت له!.
إذاً, فقد بات واضحاً, وبدليل حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي استدللنا به, أن الأمر متعلق بـ"الزمن" والأجل, وليس أدل من ظاهر الآية على هذا, إذ لم تكن "المنسأة" إلا للتدليل على "أجل" سليمان وموته!.
باختصار ...
فالمنسأة بهذا, "آلة للزمن", وقد تكون بهيئة العصا, كانت على رأس ملك سليمان, ملازمة له, متعلقة فيه, استدل من استدل على انقضاء "أجله" بذهاب "آلته الزمنية", التي كان يملك بها سليمان مفتاح "الزمن الأرضي",-وقِفْ عند "دابة الأرض" الواردة في الآية- فيزيد فيه ويأخّره بالقدر الذي يعينه على فعل أوامر الله الملك، وليس لشهوته وترفه كما يتخيّل البعض. تماما مثل ما يحلم العلماء التقنيّون اليوم, بالسيطرة على "الزمن", سواء بتسريعه أو بإبطائه, ذلك الذي سبقهم إليه النبي "المؤتى من كل شيء", وبما سخّر الله له, ليجعله آيته وحجته على زخرف الناس إلى منتهاها, أن القوة لله جميعاً.
¥