تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عُدَّة المصحِّح اللغويِّ

ـ[د. محمد الرحيلي]ــــــــ[29 - 10 - 2007, 01:17 ص]ـ

كتب د. طه محسن في مجلة التعريب/العدد السابع والعشرون/كانون الأول (ديسمبر – 2004):

شرَّف الله اللغة العربية إذ أنزل بها كلامه المجيد، وبه وهبها من الإكبار ما جعلها طوال القرون لغة الفقه، والسياسة، والقضاء، والفلسفة، والأدب ولغة العلوم كافة. وكان للرعيل الأول من أبنائها وأحبَّائِها، حين عرفوا هذا التشريف، فضلُ القيام بجمعها، وتدوينها بعد ما جابوا آفاق بلاد العرب وبواديها، يستنطقون أهلها ويستملونهم. فكان الحصاد تراثاً كبيراً يضاف إلى لغة الكتاب العزيز، والحديث الشريف.

ثم نظر هؤلاء ومن جاء بعدهم إلى هذا المحصول نظراً سديداً، فاستنبطوا منه القواعد والضوابط، والأصول، وتركوا في ذلك تآليفَ تشهد على علوِّ همتهم، وجميل صبرهم، وأبدعوا علوماً تقوم على خدمة اللغة، وخدمة القرآن الكريم بها.

ونفرت من هذه الفرق طوائف تحقق كلام الناس، وكتابات المنشئين، وتراقب الألسن والأقلام مراقبة دقيقة، وتسجل ما تراه غلطاً في استعمال الألفاظ والتراكيب، وما تجده مخالفاً للفصيح. ودونوا آراءهم في كتب ورسائل مستقلة علاوة عما سجل في مصنفات الأدب، واللغة، والطبقات، وكتب الأمالي، ومجالس العلماء من مادة غزيرة في الموضوع.

وسار الزمن، وتوالت القرون ورجال التصحيح لا يألون نقداً للغة العلماء والأُدباء وسائر أرباب الفنون، واستجدت دوافع حفزتهم على ذلك؛ منها: رواج الترجمة إلى اللغة العربية، وكثرة الكتابة في الجرائد والمجلات، وسرعة النشر وتشعب سبله بعد ظهور الطباعة. وتهيأت فئة لانتشال الكتابة من الأساليب المستحدثة واللغات الضعيفة، والوقوف دون ظهورها على لغة الضاد. وبرز كتاب في مصر والشام، والعراق، والمغرب، وجهات أُخرى كتبوا مقالات، وألّفوا الكتب، وتحاوروا في الأنديات، وطلعوا على الناس بتأليفات تدور عنواناتها حول اللغة العربية. وتقويم الأساليب، مثل: (أخطاؤنا في الصحف والدواوين)، و (إصلاح الفاسد من لغة الجرائد)، و (مغالط الكتاب ومناهج الصواب) و (نحو وعي لغوي) و (عثرات اللسان) و (معجم الأخطاء الشائعة) و (لغة الجرائد) و (تذكرة الكتاب) و (الكتابة الصحيحة) و (قل ولا تقل).

وكان لهؤلاء المتأخرين وأُولئك الأقدمين أثر واضح في كتّاب يرومون الآن تخليص اللغة من الشوائب، فراحوا يتداركون ما يرونه غلطًا في التراكيب، وأذاعوا آراءهم بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة. واعتادت الجرائد اليومية على تخصيص أعمدة تتضمن موضوعات في التوعية اللغوية ونقد الأساليب.

ونهدت أقسام اللغة العربية في الجامعات إلى نشر الوعي اللغوي، وجعلت له نصيبًا في المؤتمرات والندوات، والحلقات الدراسية.

فالحركة إذن نشطت في هذا العصر، وهانحن أولاء نجد مؤيديها وحاملي ألويتها تتنوع ثقافتهم الأدبية، وتختلف مشاربهم اللغوية، وتتقارب أساليبهم في البحث والاستقراء. فمنهم العارف باللغة المختص بها، ومنهم دون ذلك معرفة واختصاصًا وتمكنًا من التصويب والنقد، والحال هذه، في أن يرافق البحوث شيء من التزمت، والتشدد، والتقليد الضعيف، والصرامة في قبول الكلم، والخطأ في النقد، والتسرع في الأحكام، فينتج عنه ذبذبة واضطراب وتراجع عن الآراء أحيانًا.

وإذا كان علماء اللغة الأقدمون الآخذون الفصاحة من منابعها أو قريب منها لم يسلموا من المؤاخذة والغفلة من الاستقراء التام فيما حكموا عليه بالخطأ، فما بالك بمن بعُد من هذه الموارد، وأخذ بقسط من كلام العرب قليل؟.

قال أبو الفتح بن جني ت393هـ: (قال أبو حاتم [1]: كان الأصمعي [2] ينكر "زوجة" ويقول: إنّما هي "زوج".

ويحتج بقول الله تعالى: "أمسك عليك زوجك" [الأحزاب 37]. قال: فأنشدته قول ذي الرمَّة [3]:

أذو زوجة في المصر أم ذو خصومة أراك لها بالبصرة العام ثاويا

فقال: ذو الرمة طالما أكل الملح والبقل في حوانيت البقالين [4]. وتبقى كلمة "زوجة" فارضة وجودها. ولا أرى إثبات تائها إلا رافعًا للّبس في مواطن. منها على سبيل المثال مراسلات الدعاوي الفضائية، والمراسلات الأُسرية الرسمية، وغيرها.

ومثل "زوجة" ألفاظ أُخرى كثيرة، وأساليب أنكرها العلماء ومنعوا استعمالها [5].

ومثل الأصمعي لغويون تشبثوا بالفصيح، على زعمهم، حتى غلوا وتعسفوا. وهذا أبو محمد الحريري ت516هـ في (درة الغواص في أوهام الخواص) ينكر طائفة من الألفاظ، وقد كان شيء منها في الشعر الجاهلي، وشيء في الحديث الشريف [6].

وإذا كان هؤلاء المتقدمون قد أخلُّوا في استقرائهم، فحملوا على الخطأ جمهرة من الألفاظ والتراكيب. بحجة أن العرب ما استعملتها، ثم تبين أن ما نبهوا على عدمه هو شيء من كلامهم يؤيده شعر ونثر.

وأقول: إذا كان ذلك، فهل يحق لأهل هذا العصر أن يسلكوا الطريق نفسه فيكتبوا "تصحيحًا" و"إصلاحًا" إلاّ بعد الاكتهال، وأنا أطلع على مقالات أهل التصحيح، إنهم يؤتون أحيانًا من جانب القصور عن العدة اللغوية، والتقصير في تلك الصفات.

ولذلك كان هذا المقال يهدف إلى وضع المعالم المفيدة في طريق أولئك لتعينهم على بلوغ الصواب، وهي تلخَّص في الأمور الآتية:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير