تحقق فينا قول أبي حازم سلمة بن دينار رحمه الله لما سأله سليمان بن عبد الملك: يا إمام ما لنا نحرص على الدنيا ونكره الموت ونكره لقاء الله؟ وإذا بأبي حازم يحدد المرض الذي نعانيه والداء الذي نشتكي منه قال: لأنكم عمرتم دنياكم، وخربتم آخرتكم، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب.
تحقق فينا قول القائل:
أرى أناسًا بأدنى الدين قد قنعوا
وما أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغنِ بالدين عن دنيا الملوك
كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين
هذه هي الحقيقة المُرة التي نتحاشى مواجهتها، وهذا هو الواقع المرير الذي نخاف من لقائه؛ لقد أسأنا ولم نحسن، وفرطنا ولم نحفظ أمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما طلب من أمته أن يقدسوا فيه لحمًا ودمًا، ولكنه طلب منهم أن يتبعوا الوحي النازل عليه من السماء ?قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) ? (آل عمران).
وهكذا فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة المحبة الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي يوم أُحد ظهرت ملامح هذه المحبة على أرض الواقع فهذا سعد بن الربيع رضي الله عنه لما أشاع ابن قمئة- أقمأه الله- أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد قتله لمصعب بن عمير رضي الله عنه، وكان مصعب أحد القلائل الذين يشبهون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما شاع الأمر بين المسلمين ألقى بعضهم السلاح وجلسوا ينتظرون الموت، كما قالوا فمر عليهم سعد بن الربيع فقال لهم: ما أجلسكم؟ فقالوا: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: وما مات رسول الله؟ إن كان مات رسول الله فقوموا وقاتلوا وموتوا على ما مات عليه رسول الله، لا مدينة لكم بعد اليوم، ثم انطلق إلى المعركة فاعترض طريقه سعد بن معاذ، فقال: إلى أين يا ابن الربيع؟ فقال: واهًا يا سعد والله إنها الجنة ورب الربيع.
فلما وضعت الحرب أوزارها قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه من يأتيني بخبر سعد بن الربيع فبحثوا عنه فوجدوه في الرمق الأخير فقالوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام، ويقول لك: كيف أنت؟ فقال: أبلغوا رسول الله مني السلام وقولوا له: إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خير ما جازى نبيًّا عن أمته، ثم التفت إلى أصحابه وقال لهم: أبلغوا مَن خلفكم من أهل المدينة أنه لا عذر لكم عند ربكم إن خلص إلى رسول الله أذى وفيكم رمق.
هذه هي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين نحن منها هل أدركنا الآن ما الذي دفع حثالة الأرض من الأعداء للإساءة لنبينا؟ إنه نحن، وكأني بأم الملك أبو عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس الذي وقع وثيقة الاستسلام للإسبان فوقف على مشارف غرناطة يبكي فقالت له: ابك كالنساء على مُلك لم تحفظه كالرجال، كأني بها تقف الآن بيننا لتنادي مليارًا ونصف المليار مسلم: ابكوا كالنساء حِمَى نبي لم تحموه كالرجال.
كان شيخنا الجليل فضيلة العلامة الدكتور عبد الرشيد صقر- عليه رحمة الله- يحدثنا فقال لنا: كنت ذات يوم في حوار مع أحد العاملين في حقل الدعوة الإسلامية المتجردين لها، فكنت أقول له: أما ينبغي على هذه الأمة أن تقدم ولو عشرة ملايين من الشهداء لتعيش مكرمة عزيزة؟! فقال لي: أنت شحيح، ولماذا لا نقدم الربع مليار شهداء ليعيش المليار مسلم أعزة كرامًا بدلاً من أن تعيش الأمة بأسرها ذليلة مهانة، لها من الصَّغَار والهوان ما لو قُسِّم على القارات لدهاها وغشاها؟!
فهل آن لنا أن نقف على حق ربنا، ونقوم بالدور الذي أراده الله لهذه الأمة كخير أمة أخرجت للناس؟ هل آن لهذه الأمة أن تنخلع من سلبيتها، ومن خنوعها وذلتها وهوانها لنعلن في ذكرى مولد خير البشر احتفالاً مميزًا في هذا العام، نعلن محبة حقيقية للنبي بعيدًا عن السلبية والانكسار، فتكون ذكرى المولد في هذا العام إيذانًا بعودة الأمة إلى ربها ونبيها ودينها في ظل مرجعية إسلامية تحكم جميع شئون حياتنا، ويكون هذا هو أبلغ رد نقوم به في مواجهة حثالة الأرض ممن أساء لنبينا، ? .... وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) ? (الروم).
لعل هذا يكون قريبًا، ويسألونك ?وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا? (الإسراء: من الآية 51).