وبينما كنت أقرأ هذا الخبر سمعت حوراً بين رجل كبير إنكليزي خشن الصوت وفتاة، يتخلل ذلك بُغام صغير.
وتكرر هذا الحوار بذاته لا تتبدل فيه كلمة من جملة ولا رنة من لهجة، فعجبت، وخرجت فلم أجد أحداً، فدخلت فسمعت الحوار نفسه، فخرجت فلم أجد أحداً، ولحظ ذلك نادل الفندق، وهو هندي، فضحك ودلني بإصبعه على قفص فيه طائر أسود (كالذي روى خبره السيوطي) يشبه الشحرور المعروف في الشام وليس به، وإذا هو الذي يخرج هذه الأصوات.
فكان عجبي من هذه المصادفة بالغاً!. ص 42 ـ 43.
6 ـ الخليفة المهتدي في مجلس القضاء:
عن عبدالله الإسكافي قال: حضرت مجلس المهتدي وقد جلس للمظالم، فادعي رجل على ابن المهتدي، فأمر بإحضاره، فأُحضر. وأقامه إلى جنب الرجل فسأله عما ادعاه عليه، فأقر به، فأمره بالخروج له من حقه. فكتب له بذلك كتاباً، فلما فرغ قال له الرجل: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قال الشاعر:
حكمتموه فقضى بينكم
أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه
ولا يبالي غبن الخاسر
فقال له المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فما جلست هذا المجلس حتى قرأت في المصحف: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين).
قال: فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم. ص53 ـ 54.
7 ـ حُمل إلى الإمام البخاري بضاعة له، فاجتمع بعض التجار إليه بالعشية فطلبوها منه بربح خمسة آلاف درهم، فقال لهم: انصرفوا الليلة. فجاءه من الغد تجار آخرون فطلبوا منه تلك البضاعة بربح عشرة آلاف درهم، فردهم وقال: إني نويت البارحة أن أدفع إلى الذين طلبوا أمس بما طلبوا أول مرة.
فدفعها إلى الأولين بما طلبوا بربح خمسة آلاف درهم، وقال: لا أحب أن أنقض نيتي. ص 57.
بقية الفوائد تأتي تباعاً.
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[14 Apr 2009, 03:17 م]ـ
8ـ شيخنا عبدالقادر المبارك رحمه الله، الذي كان راوية العصر وكان من أيسر محفوظاته (القاموس المحيط)، حدثنا مرة في الفصل أن إخوانه كانوا يعيبون عليه أنه لاشتغال فكره بمسائل اللغة والأدب يسلمون عليه في الطريق فلا يرد السلام، فعزم يوماً على أن يكون متنبهاً، فسمع وهو خارج من بيته وطء خطوات جاره على بلاط الزقاق، فلما اقترب منه قال له بصوته الجهوري العجيب: (وعليكم السلام)، ثم التفت ليراه فإذا هو بغل الطاحون، أرسله صاحبه إلى البركة ليشرب!. ص 73.
9ـ (القُل) بضم القاف هو القليل، ومنه قولهم: (ما لايدرك كله لا يُترك قُله)، وأكثر الناس يخطئون في رواية هذا المثل. ص91.
10ـ من أراد متعة الأدب، وطلب جيد الشعر، وأراد الإحاطة بأخبار الشعراء والمغنين، للذة الأدبية وتقوية الملكة البيانية، فلا يجد كتاباً أجمع لهذا كله من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.
وما منا إلا من كان (الأغاني) عُدته الأولى في إقامة اللسان وتجويد البيان، ولقد قرأته كله (وهو بضعة وعشرون جزءاً) ثلاث مرات، واستفدت منه في الأدب واللغة ما لم أستفد مثله في غيره. ص102
والخلاصة أن (الأغاني) كتاب من أعظم كتب الأدب، ولكن لا يجوز الاعتماد على صحة أخباره ولا يجوز أن يُنقل منه التاريخ، وصاحبه ـ على جلالة قدره في الأدب ـ رقيق الدين سيء السمعة بذيء اللسان، لا يوثق بروايته ولا بصدقه.
فاقرؤوا كتاب (الأغاني) للمتعة الأدبية ولتقويم الملكة البيانية، ولكن لا تصدقوا كل ما يرويه فيه ولا تعتمدوا عليه.ص104.
11ـ أريد أن أدلكم على شيء فيه لذة كبيرة، وفيه منفعة كبيرة، وتكاليفه قليلة. فهل تحبون أن تعرفوا ما هو؟
هو المطالعة. ولقد جربت اللذائذ كلها فما وجدت أمتع من الخلوة بكتاب. وإذا كان للناس ميول وكانت لهم رغبات، فإن الميل إلى المطالعة والرغبة فيها هي أفضلها. ص179.
12ـ خير ما يُقرأ هو القرآن، بشرط أن يُفهم ما يُقرأ، وقراءة سورة قصيرة مع الفهم والتدبر خير من ختمة بلا فهم ولا تدبر. القرآن أساس البلاغة في القول، فضلاً عن كونه أساس الهداية للقلب، وكونه دستور الحياتين وسبب السعادتين.
والذين تسمعون عنهم من بلغاء النصارى في هذا القرن ما بلغوا هذه المنزلة إلا بدراسة القرآن، كالشيخ ناصيف اليازجي وابنه إبراهيم اليازجي، وفارس الخوري، هذا وهم نصارى، ونحن أولى بهذا الكتاب. ص181.
13ـ من الأدباء من كنت أقرأ له فلا أبتغي بلاغة ولا لسناً ولا بياناً إلا وجدت عنده فوق ما أبتغي، فأتخيل شخصه وأتوهمه على أوفى ما يكون عليه المتفوه اللسن، ثم ألقاه فألقى الرجل الساكت الصموت الذي لايكاد يتكلم حتى تكون أنت الذي يسأله ويدفعه إلى الكلام، وإذا تكلم أخفى صوته ولطف حروفه حتى لا يُسمع منه ولا يفهم عنه.
ومن الأدباء من ألقاه في مجلس فأجد المحاضر الفياض الذي ينتقل من نكتة إلى نكتة ومن قصة إلى أبيات من الشعر، فيبتدع لها المناسبات ويلقيها بصوت قوي، ويتكئ على الحروف ويعظم مخارجها فأُكبره وأعظمه وأسأله أن يكتب مقالة أو ينشئ فصلاً، فيفر منه فراراً ويسوف ويعتذر، فإذا أُحرج وكتب جاء بشيء هو أشبه بسفرة المُسَحر، فيها من كل طعام لقمة، ولكن الحلو مع الحامض والحار مع البارد، وكل طعام مع طعام.
وقد تتبعت أحوال هؤلاء، فوجدت أكثرهم على غير علم ولا اختصاص، ولا يطالع بجد ولا يبحث بإمعان، ولا تدع له المجالس وقتاً لدرس ولا بحث، وإنما يحفظ الرجل منهم طائفة من الأخبار الأدبية والنوادر فيحملها معه أياماً يعرضها في كل مجلس، ويعيدها بعينها حتى ترث وتبلى وتصبح كالثوب الخلق، فيعمد إلى غيرها فيصنع به مثلما صنع بها، ولا يدرك الناس الفرق بينه وبين الأديب المبدع الباحث، فيطلقون على الاثنين اسم (الأديب).
فمتى يميز الناس بين الأديب الحق، وبين أديب المجالس. ص 233.
¥