تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد صحبت أخي كثيراً، وسكنت معه في دار واحدة، وصحبته لزيارة العلماء؛ فوالله لا أذكر أنه غضب عليَّ يوماً، ولا آذاني بكلمة، وكان يسع جهلي بعلمه وحلمه، ويعظني بالتي هي أحسن، وعندما أصبح لديَّ غلوٌّ في فترة الشباب، لم أجده يغضب، وإنما هي الكلمة الحانية المصحوبة بالدليل والبرهان.

أحببت الانتقال إلى مدينة شقراء عندما كان مديراً لمعهدها محبة في صحبته، فرحّب بي في منزله، ولكنه لم يغضب، ولم يثر عندما ضاقت بي شقراء، ولم تسع حركتي؛ فابن الرياض أنى له أن يستطيع العيش في قرية صغيرة كشقراء في تلك الأيام، وأرسل معي خطاباً إلى مدير المعهد في الرياض ليقبل رجوعي إلى ذلك المعهد الذي لم يطل غيابي عنه إلاّ مدة شهور.

رحمك الله يا أبا عبد الله؛ فقد كان له فضل كبير في إصلاح والديه وإخوانه وأخواته، ولا أعلم -حتى اليوم- أنه جرت له مشكلة مع والديه، ولا مع إخوته أو أخواته وأقاربه.

وعندما صار إلى السعودية، وحصّل لنفسه بعض المال علمت –عرضاً- أنه لم يكتفِ بإمداد والديه لينفقوا على أنفسهم و على إخوانه، بل علمت من بعض الأقارب أنه وصلهم منه خير في حال حاجتهم إليه.

كنت أزوره في مرضه بين الحين والحين، ومع أن المرض أعجزه وأقعده إلاّ أنك إذا زرته لقيته يقابلك ببشاشة وجه، وابتسامة عريضة، ومع ذلك كله كلمات طيبة تفيض بالمودة والمحبة.

وخرجنا من الكويت، واستقر بنا المقام في عمان، وحاول أن يعمل في إحدى كليات الشريعة، ولكنه بعد أن أُسند إليه التدريس في بعض المواد، وجد أنه لا يستطيع أن يعطي المواد حقها بالسرعة الكافية؛ لقد أصبح التأليف والكتابة أحب إليه من التدريس الجامعي بما فيه من لقاءات واجتماعات، وتصحيح للأوراق؛ فأعرض عن العمل في هذا المجال.

واستمر يعمل في مجال التأليف، والتدريس على طريقة الشيوخ، خاصة في علم أصول الفقه، وكان كل همِّه أن يفقّه طلابه فيما يدرس لهم، بعيداً عن الامتحانات المنهجية، التي تقتضي التصويب والتصحيح على المنهج الجامعي.

لقد كانت صحة أخي محمد عبر سنوات عمره طيبة جيدة، ولم يكن يعاني من أمراض مزمنة، حتى أصابه عوار في رأسه، وقد انتهت البحوث التي أُجريت له عن وجود تدرّنات في دماغه، وانتهت بإجراء عملية استمرت عشر ساعات استُؤصلت من دماغه عدة تدرنات، ولم تؤثر هذه العملية على قواه العقلية، ولا على علمه، ولكنها أثرت على الجانب الأيسر من جسده، وكان يمشي بشيء من الصعوبة، ولكنه وقع أكثر من مرة، وقد أعجزه وقوعه وانكسار إحدى رجليه عن القدرة على السير، وما زال المرض يعمل عمله فيه حتى أفقده القدرة على النهوض.

فَقَد قدرته على السير، وضعف نظره في إحدى عينيه، ولكن بقي نظره صالحاً للرؤية والمطالعة والكتابة، وبقيت يده اليمنى تعمل جيداً.

لقد كان صابراً محتسباً في مرضه، وقد زرته في مرضه الأخير، فوجدته يدعو ويستغيث بالله ويناديه، ووجدته يكثر التأوّه، ووجدت حفيده الذي درس عليه في دراساته العليا يحاول أن يمنعه من التأوّه، فقال له: إن هذا التأوّه يخفف الألم الذي يشعر به، فقلت لحفيده: لقد كان خليل الرحمن نبي الله إبراهيم أوّاهاً حليماً (إن إبراهيم لأوّاه حليم). فلما سمعني أتلو الآية استنار وجهه، وقال لحفيده: هذا نبي الله إبراهيم -عليه السلام- كان أوّاهاً!!

أقعد المرض جسده، لكن لم يتوقف علمه ولا عطاؤه، فبقي يفتي ويجيب عن الأسئلة التي تُوجَّه إليه عبر الهاتف، وبقيت صلته بالكتاب، يقرأ ما يصل إليه من كتب، وفي زيارة قريبة له منذ شهر أو شهر ونصف رأيته فرحاً متهللاً، فقد ذهب إليه أحد أبنائي بكتاب صدر لي قريباً أوردت فيه صفحات من حياتي، فوجدته قد قرأه قراءة كاملة، وعدَّد لي بعض ما أعجبه في الكتاب، ولم يورد عليَّ في الكتاب إلاّ قضية واحدة، وعدته بالنظر فيها عندما أعيد النظر في الكتاب.

ولم يتوقف عند حدود قراءة بعض الكتب، بل جاوزه إلى التأليف في مرضه، فكتب عدة كتب، وكان أحد أحفاده من إحدى بناته يدرس في الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه، فكان يطيل الجلوس معه، ويشاوره فيما يكتب، وفيما يخطط له، ولم يُتوفَّ حتى أتمَّ حفيده رسالة الدكتوراه، وكانت رسالة موفقة حظيت بمناقشة علمية مسدّدة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير