[رسالة عزاء ومواساة لإهلنا وأحبابنا في جدة ..]
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[05 Dec 2009, 01:47 ص]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ مساء يوم التروية الثامن من هذا الشهر (ذي الحجة 1430) وأنا أراقب ما يحدث في جدة من خلال الانترنت فقط، وقد هالني ما رأيتُ من مناظر السيول الجارفة، من خلال الكاميرات الشخصية لبعض الهواة، وشيئاً فشيئاً بدأت تتكشف المأساة التي لم يكن يتوقعها الكثيرون، وكثرت المقالات على إثرها في الصحف والمواقع الإلكترونية حول الموضوع.
مناظر لا تكاد تصدق، ولم أشاهدها حتى في فيضانات بنجلاديش والهند التي اعتدنا على رؤيتها كل عام، سيارات يجرفها السيل كأنها علب كبريت، وشوارع لم يعد الناظر يتبين معالمها، وأكوام من السيارات فوق بعضها بطريقة مذهلة، وكلكم شاهدتم هذه المناظر. فهرعت إلى الهاتف الجوال أتصل بإخواني في جدة ومن أعرفهم من الأصدقاء لأطمئن عليهم، فوجدتهم ولله الحمد لم يصب أكثرهم بأذى، وبعضهم مسَّه بعض الأذى في منزله أو سيارته غير أنه لم يصب هو بسوء، وبعضهم كان يسكن في الأحياء المنكوبة ولكن الله أنجاه فكان خارج جدة أثناء الإجازة، ومن رأى مصيبة غيره هانت عليه مصيبته.
واليوم بعد عشرة أيام من الحدث تكشفت الكثير من الحقائق المرعبة، والأخبار المفزعة عن عدد الوفيات والمفقودين، وكثرة الخسائر في المنازل والسيارات والشوارع والمباني الحكومية، ولم يكد يسلم من هذه الكارثة أحد في مناطق شرق الخط السريع وبعض أحياء جدة الوسطى. ولستُ أدري حتى الآن سبب هذه السيول الجارفة هل هي الأمطار وحدها فحسبُ، أم أن هناك سيولاً منقولة من جهة الشرق أم سدوداً انفجرت واجتاحت ما قبلها حيث لم أتابع بعض الأحداث لتتابعها.
وقد أقعدتني هذه الأخبار عن الكتابة والمواساة لأهلنا في جدة، والمربك حقاً أنَّ هذه الأحداث تزامنت مع بدء الحج صباح يوم التروية، والجميع قد لبس إحرامه مصعداً إلى منى حتى أمير الحاج، فأسقط في يد الحكومة والمواطنين معاً في مدينة هي بوابة الحرم، وانقطع خط جدة مكة السريع، واختلط الحابل بالنابل، وكان الذهول سيد الموقف، ولا أظن أن الذين كانت لهم يد في هذه المصيبة كانوا يتوقعون هذه النتائج المخيفة بسبب خيانتهم للأمانة، وإقامتهم هذه الأحياء والشوارع في مجاري الأودية، حيث إننا تعودنا على ستر الله ولطفه، وإن كنَّا دوماً نعلن استعدادنا وقدراتنا على لمواجهة الطوارئ، ولكن إذا حزبتنا الأمور حقاًَ، ودهمتنا الأحداث تبينت هشاشة الاستعدادات. فتعودنا على كليشات محفوظة نقولها وربك هو المسلِّم للعواقب.
ومن المضحكات أنني في هذه الأثناء دُعيتُ لمداخلة في قناة الإخبارية السعودية مساء يوم عرفة بالهاتف وطُلِبَ منِّي أن أعلق على نفرة الحجاج من عرفات في خمس دقائق في برنامج مباشر لتغطيتها. وفوجئت بالمذيع يسألني على الهواء مباشرة ويقول (والآن أيها الإخوة المشاهدون معنا من عرفات الآن الشيخ فلان لينقل لنا صورةً حية من الموقف هناك ... ) ولم يخبرني المنسق بذلك من قبل، ولم أشأ أن أحرج المذيع وأصحح له أنني لستُ في عرفات، وإنما في بيتي في الرياض حيث كان يقدمني للمشاهدين بحماس! وأمامي حينها الشاشة على جهازي الكمبيوتر أشاهد الصورة ببطْء شديد، فما كان مني إلا أن قلتُ: الحمد لله كانت نفرة الحجاج انسيابية، وقد تم انتقالهم لمزدلفة بسلام كما هو مخطط له ... الخ) كما هي عادتنا في مثل هذه المواقف ثم حوَّرتُ الحديث لما أريد أن أقوله وأستغفر الله من ذلك، ومع إن الكاميرات المباشرة كانت تنقل الأمور بوضوح وأن الأمور كانت تسير بسلام، إلا أننا أصبحنا نحفظ بعض العبارات نكررها في المواقف دون أن يكون لها حقيقة في الواقع.
ولذلك لمَّا نَصَعَ الأمر في جدة عجز الدفاع المدني عن إنقاذ الغرقى والمحتجزين وتدخلت بعض قوى الجيش والحرس الوطني والشرطة ولم يبق أحدٌ قادر إلا شارك في الإنقاذ، ولم يقاربوا لعظم المصيبة وانتشارها. فاللهم عفوك وسترك ومغفرتك يارب.
إنني أكتب هذا وأنا في ذهول شديد مما رأيتُ بعضَه، وقرأتُ عن بعضه. فكيف بمن شاهد الكارثة عن قرب؟
ولا زلنا حتى الآن في ذهول من هذه الحادثة، ولا أظنكم إلا مثلي أو أشد.
ولم يعد اليوم من الممكن إخفاء مثل هذه الحقائق عن الناس، فكل من يحمل هاتفاً يمكنه نقل الصورة للعالم وذهب زمان التعتيم عن مثل هذه الأخبار إلى غير رجعة.
أسأل أن يجبر مصابكم يا أهل جدة، وأن يتقبل من مات منكم شهيداً عنده،وأن يخلف عليكم خيراً مما أخذ منكم، وأن يرد كل غائب ومفقود إلى أهله سالماً معافى. والحمد لله على قائه وقدره.
وأسأل الله أن يجعل هذه الحادثة باباً لنا جميعاً للعودة إليه والتوبة من ذنوبنا ومعاصينا التي نستغفر الله منها ونعوذ بالله منها.
وما حلَّ بجدة يمكن أن يقع في غيرها، وإنني أسكن في حي من أحياء الرياض الراقية في الشمال وهو حي الغدير وأسعار المتر فيه تقارب الثلاثة الآف ريال، ولو استمر المطر يوماً لأغرقنا من سوء التصريف، وتجمع المياه فيه، ومثله معظم أحياء شمال الدائري (الوادي) والنفل والفلاح والملقى، وأسماء هذه الأحساء تدل على أنها تقع في مجاري السيول وملتقاها، وإذا ضيعت الأمانة فلا تستغرب مثل هذه الكوارث التي يذهب ضحيتها الجميع ومعظمهم من المساكين الذين أنفقوا أموالهم في شراء هذه المنازل التي لا يعلمون أن أصلها بطون أودية.
ولذلك لاحظنا استنفار المسؤلين في بقية المناطق استعداداً للأمطار وخوفاً من أن يتكرر الحادث الذي وقع في جدة في بقية المناطق والله المستعان.
ولا زالت الأحداث تتوالى، واللجان تحصي الخسائر سعياً لتعويضهم كما نقرأ.
أسأل الله أن يعوضهم خيراً في الدنيا والآخرة، وأن يجعل في هذا الحدث عبرة وعظة لنا جميعاً، وأن يكون في القرارات التي اتخذت بعد هذا الحدث ما يصلح الخلل، ويجبر المصاب، ويصحح المسار في كثير من الأمور.
¥