(إذا ما غضبنا غضبة مضرية) فهذه الألفاظ ذات جزالة وقوة، (إذا ما غضبنا غضبة مضرية) نسبة إلى مضر وقريش منهم، والشاعر قرشي (غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس) لم تقتصر فقط الغضبة على أمور الأرض وما حولها، بل وصلت إلى الشمس، وهذا ادعاء، (هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما) حتى كأن الشمس قطرت دما لشدة هول هذه الغضبة، (إذا ما أعرنا سيدا من قبيلة نُرى منبر) أي: أعلى المنبر، (صلى علينا وسلما)؛ لأنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وآله، فهذا غاية في الفخر، واختيرت له الألفاظ الجزلة القوية.
ويذكر عن أحد، عن أبي دلامة، الشاعر المعروف الهجَّاء، في أيام بني العباس، أنه أساء إليه هاشمي، رجل من بني هاشم أساء إليه، فتكلم أبو دلامة فيه، فقال له الهاشمي: إنك لا تستطيع أن تهجوني؛ لأنك تصلي عليّ في صلاتك. فقال: إنما أصلي على آله الطيبين فقط. فأخرجه منهم، قال: ألست تصلي على آل النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أصلي على آله الطيبين. فهذا الأسلوب هنا غاية في الجزالة.
ونظيره الخطب المروية عن الخلفاء في أوقات الأزمات، في أوقات الحماسة كقول علي: "يا أهل العراق لقد عصيتموني حتى قال الناس: ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب، فوالله إني لجُذيلها المحكك، وعُذيقها المرجل، ولكن لا رأي لمن لا يطاع، فأبدلني الله خيرا منكم وأبدلكم شرا مني".
وكذلك قول عمر رضي الله عنه في خطبته: ألا إن الأسيفع أسيفع جنية قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال سابق حاد، فدان معرضا، فأصبح (كلام غير مسموع) فمن كان له عليه دين فليعد بالغداة فلنقسم ماله بينهم بالحصص.
وكذلك في خطاب العلماء لطلاب العلم، الكلام الذي يوجهونه إليهم يقصد منه الفائدة ورفع مستواهم، فليس كالكلام الذي يوجه إلى العامة، ولذلك قال علي رضي الله عنه لأبي الأسود حين اتخذه كاتباً وأمره أن يكتب، قال: "ألصق رونفك بالجبوب، وخذ المسطر بأباخصك، واجعل شحمتيك إلى قيهلي؛ حتى أنغي نغية إلا أوعيتها في (غير مسموع) رباطك.
فخاطبه بهذه الكلمات الغريبة ليعرف معانيها ويهتم بها. وقد سُئل محمد بن يعقوب الفيروز آبادي صاحب (القاموس) عن معنى هذا الكلام، فقال: (ألصق) معناه: ألزق. (روانفك) معناه: (غير مسموع). بالجبوب معناه: بالصَّلَّة. (وخذ المسطر) أي: المزبر. (بأباخصك) أي: بشناترك. (واجعل شحمتيك) أي: صندروتيك (إلى قيهلي): إلى أذعباني. (حتى لا أنغى نغية) أي: حتى لا ألبس لبسة. (إلا أوعيتها): إلا أودعتها. في لفظة رباطك في حباطة جلجلانك، فشرح الكلام بأغرب منه.
(ألصق روانفك بالجبوب) أي: تمكن في جلستك من الأرض، فاجعل مقعدتك على الأرض، (ألصق روانفك)، الروانف: المقعدة بالأرض، (بالجبوب)، الجبوب: الأرض، ومن ذلك قول امرئ القيس:
فيبتن ينهشن الجبوب بها = ويبيت مرتفقاً على رحل
ألصق روانفك بالجبوب وخذ المسطر، وهو القلم، يسمى المسطر والمزبر, (بأباخصك) أي: برؤوس أصابعك وتسمى الشناتر أيضاً، لكن الشناتر من لغة أهل اليمن بلغة حمير، ولهذا كان لدى الخليفة الرشيد رجل من أهل اليمن يزعم أن القرآن أنزل بلغة أهل اليمن، والرشيد يستمع إليه، فحضر مضري أي: رجل من مضر، فقال له الرشيد: ما رأيك فيما يقول هذا؟ فقال: ماذا يقول؟ قال: يزعم أن القرآن نزل بلغتهم، قال: ما أدري ما يقول غير أن الله تعالى يقول في كتابه: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} ولم يقل: جعلوا شناترهم في صنَّاراتهم. الشناتر في لغة أهل اليمن الأصابع، الآذان: الصنَّارات في لغة أهل اليمن لغة حمير، قال: ما أدري ما يقول غير أن الله تعالى يقول في كتابه: {جعلوا أصابعهم في آذانهم} ولم يقل: جعلوا شناترهم في صنَّاراتهم.
فإذن هذه المزبر بأباخصك، واجعل شحمتيك أي عينيك، وهما أيضاً الحندورتان، الحندورتان العينين، إلى قيهلي أي إلى وجهي، والقيهل هو الأذعبان أيضا.
حتى إذا القيهل التاذت حديقته = به وهمَّت بإزهار فإزهاء
طلقتها من مثاق وثقت بها = والعجب أصل لما في النفس من داء
(القيهل) الوجه التاذت حديقته أي التمت واجتمعت حديقته وهي اللحية، أحاطت به كأنها حديقة تحيط
حتى إذا القيهل التاذت حديقته به = وهمَّت بإزهار فإزهاء
أي همت أن يبدأ فيها الشيب، طلقتها من مثاق وثقت بها، أي: النفس، والعجب أصل لما في النفس من داء.
¥