معلوم أن الترجمة تُفقد أي نص جزءاً من قيمته الإبداعية, ومع ذلك فما من مسلم جديد غير عربي إلا ويعترف بقوة تأثير معاني القرآن عليه رغم ترجمتها؛ أما عالم الرياضيات الأمريكي المسلم الدكتور حيفري لانج فقد كان بينه وبين القرآن صلة من نوع آخر, فعندما سأله أحد الفضوليين في بداية إسلامه: لماذا تحرص على الصلاة جماعةً في الصلوات الجهرية وأنت لا تعرف اللغة العربية؟ فقال له: (لماذا يسكن الطفل الرضيع إلى صوت أمه وهو لا يعي من حديثها شيئاً؟ إنني أشعر بمثل هذا النسب بيني وبين هذا الكلام الذي أسمعه).
هذه اللغة هي الوعاء الذي اختاره الله سبحانه لكلامه السرمدي, فكيف لا نصدّ عنها الدعوات إلى نبذها؟ منذ دخول الاستعمار إلى بلادنا العربية حاول أن يلغي مقومات ثقافتنا لأنه وجد العقيدة خطاً أحمر لم يستطع الاقتراب منه - اللهم إلا عبر إحياء بعض الحركات الباطنية المنتكسة حسب سياسة "فرق تسد"- فشنّ حرباً شعواء على الثقافة العربية وكان منع التدريس باللغة العربية واستبدالها في بعض البلاد بالفرنسية أو الإنجليزية أسوأ صدىً لتلك الحرب, ولما تم جلاء المستعمر الغربي حلّ ببلادنا بعض أبناء جلدتنا الذين درسوا في جامعاته وانبهروا باستنارته, فتعالت أصواتهم مناديةً أن يكون التعليم باللهجة العامية المحلية كما في لبنان أو مطالبةً بالعودة إلى الثقافة الإقليمية كالبربرية في المغرب والفرعونية في مصر, لكن هل من الحكمة المغامرة بانتشار الأدب اللبناني مثلاً إذ يُكتب بلغة عامية لا يفهمها إلا أهلها؟ وكيف للدعوات الإقليمية أن تفعَّل دون أحرف خاصة بالأمازيغية أو بالفرعونية؟ ألا يجب أن تكون اللغة الوطنية أصيلةً ضاربةً جذورها في تربة أحرفها الخاصة؟ فهل ستُخترع أحرف جديدة في المغرب أم سيكتبون باللغة الهيروغليفية في مصر؟! قد تصبح الكلمة سطراً كبعض كلمات اللغة الروسية وقد تكون خشنةً كالألمانية وقد تكون بسيطةً لكن بدون جرس موسيقي كالإنجليزية وقد يكون فيها موسيقى لكنها غير مرنة كالفرنسية, فلم الاستهانة باللغة العربية رغم جمال وقعها بالنفس ورغم جمعها بين المرونة والقوة؟ هذا ليس رأي عاشق للغة القرآن فحسب بل هي وجهة نظر كل عالم باللغات يقف على الحياد, وعندما يطّلع المرء على وجهة النظر هذه يتمنى لو يخرج من عروبته للحظات كي يتذوق هذا الجمال الموسيقي الذي يتغنى به علماء اللغة غير العرب. أما من الناحية الجمالية التصويرية فلا توجد لغة قادرة على التصوير والإيحاء مثل العربية سواء بقوة المعاني أو وفرة الألفاظ أو غنى التراكيب أو تفرّد الصور البلاغية؛ وهي لغة مرنة لأنها معطاءة إلى أبعد الحدود إذ يمكن توليد اشتقاقات عديدة من أي كلمة ولنأخذ مادة (أمن) فنجد لها ستة أشكال على الأقل من الأفعال الماضية المجردة والمزيدة مثل: (أمِن, آمن, ائْتَمن, استأمن, أمّن, تأمّن) ومنها يمكن اشتقاق ست صيغ للفعل المضارع ومثلها لفعل الأمر ومثلها للفعل المبني للمجهول بنفس الكلمة دون إضافة أي فعل مساعد, كما يمكن اشتقاق أسماء المصادر مثل: (أمْن, إيمان, ائتمان, استئمان, أمان, تأمين) ناهيك عن اشتقاق أسماء الفاعل وأسماء المفعول والصيغ المشبهة بالفاعل والصيغ المؤنثة منها كلها وجمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم وجمع التكسير وهو ما يقارب مئة كلمة من مادة (أمن) وحدها وقس على ذلك أي لفظة أخرى, فلغتنا هي الودود الولود التي نفاخر بها الأمم.
وإذا كان القرآن قد حفظ اللغة العربية من الاندثار كما اندثرت كثير من اللغات غيرها فقد حفظت اللغة العربية القرآنَ من التفسيرات المزاجية لأصحاب الهوى؛ يقول عالم اللسانيات المغربي المقرئ أبو زيد الإدريسي: (وقد اختار الله عز وجلّ أن يتصل بنا نحن البشر عن طريق اللغة، فأخضع هذا الاختيار لقواعد وأنساق اللغة التي تتعامل مع قدرة البشر على الاستيعاب والفهم. وفي تفسير القرآن الكريم كانت المعركة والتحدي الخطير بين الذين يريدون إثبات المعنى وضبطه دون قتله أو حصره وبين الذين يريدون تمييع المعنى، كما انتهى الأمر مع غلاة الصوفية من السنّة وغلاة الشيعة والباطنية؛ فهؤلاء كانوا خارج اللغة. أما المنهج القويم فقد استمسك بقواعد التفسير بالمأثور وهي تفسير القرآن بالقرآن ثم تفسير القرآن بالسنة ثم التفسير باللغة وقواعدها. ورغم أن تفسير القرآن باللغة يأتي في الترتيب الثالث على مستوى الكيف، لكن على مستوى الكم يمكن أن نقول إن 99% من التفسير هو تفسير باللغة). لذلك فإن تفسير القرآن الذي ابتدعه بعض من يُنسبون إلى الفكر الإسلامي وهو منهم براء يتهاوى أمام ضوابط التفسير في اللغة, كتفسير ذاك المعاصر لمعنى كلمة (جيوبهن) في الآية الكريمة: (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) بأنها الثديان والعورة المغلظة فهي ما يجب سترها عن الأعين فقط!.
إن التأكيد على جمال اللغة العربية وغناها ومرونتها يجب ألا يضاهيه إلا تعزيز ثبات قواعدها النحوية والتفسيرية, فلا يمكن أن ننصب الفاعل ونرفع المفعول به, ولكن لا مانع من تقديم الفاعل على الفعل بجعله مبتدأ مثلا, فاللغة العربية مرنة رغم ثبات قوانينها, وإذا تم تجاوز القواعد الضابطة لها فإن القرآن الكريم, كما يقول المقرئ الإدريسي, يصبح ألفاظاً ليس لها معنى ولا أنساق ولا قواعد، كخانات فارغة يملؤها كل واحد بأمراضه وعقده وحساباته السياسية الضيقة. وتحضرني هنا حكاية الأعرابي الذي جاء إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فقال: كيف أؤمن بالرسول والله يقول: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) وحرّك (رسوله) بكسر اللام فباتت الكلمة معطوفة على المشركين, فصحّح له عمر بضم اللام في كلمة (رسوله) وليس بكسرها. أما حكاية الشعر الحداثي عندما يتجاوز قواعد اللغة فقد لخّصها كاتب مصري ذكي بأن القصيدة يمكن أن تقرأ من اليمين للشمال ومن الشمال لليمين, ويمكن أن تعتبر شعراً ويمكن أن تعتبر نثراً. إنها حكاية الموضة الشائعة في بعض البلاد العربية: غطاء للشعر لزوم الحشمة مع بنطال "محزّق" لزوم الإغراء!.
*كاتبة ومستشارة تنمية ذاتية واجتماعية
المصدر ( http://www.alwatan.com.sa/daily/2004-12-25/writers/writers09.htm)
¥