فقد قرأت ما كتبه فضيلة الشيخ المحدث رياض بن عبدالمحسن السعيد أسعد الله أيامه ولياليه وغفر له ولوالديه وذلك في موضوعه المنشور في ملتقى أهل الحديث تحت عنوان (إجازة الرواية وضعف التوحيد والسنة) وقد شدد النكير على من تساهل في الرواية عن أهل البدع، وأشار إلى صنوفٍ من تساهل المتأخرين في الرواية عنهم والتوسع في ذلك إلى حد الرواية عن الزنادقة من القبوريين والجهمية والرافضة!.
ولا شك أن طرحه لهذا الموضوع من الأهمية بمكان، خاصة في هذا الزمان الذي ركب طلاب الإجازات فيه الصعب والذلول ورووا عن كلّ من مشى ودرج كيفما كانت نحلته، وأينما توجهت ملته!.
ومسألة الرواية عن أهل البدع من مسائل العلل المشهورة عند علماء الحديث قديماً وحديثاً، وقد اختلفوا فيها على أقوال مشهورة، وقد بحثها جمعٌ من أهل العلم والتحقيق، ومن أواخرهم شيخ مشايخنا المحدث العلامة عبدالرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله تعالى في كتابه الجليل "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل".
والصحيح من مذاهب العلماء صحة الرواية عن صاحب البدعة بشرطين:
الأول: أن لا تكون بدعته مكفرة.
والثاني: أن لا يُعرف بالكذب في قوله ولا روايته.
وتقبل روايته بعد ذلك سواء كان داعية لبدعته أو لم يكن داعية، ولكن هذا لا ينافي الأصل عند السلف في هجران أهل البدع، وعدم الأخذ عنهم، وعدم مجالستهم، بل ربما ترك بعضهم الرواية عنهم وإن لم تكن بدعتهم مكفرة، ولم يكونوا من أهل الكذب في الرواية كلّ ذلك قربة لله، وردعاً لهم، وزجراً لغيرهم، وقد جمعتُ في كتابي "اللمع في مواقف أهل السنة من أهل البدع" العديد من الآثار عن السلف في منابذتهم لأهل البدع، والتحذير منهم، وعدم السماع لهم، والرواية منهم، والجلوس إليهم، والصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، واتباع جنائزهم، والثناء عليهم، كلّ ذلك مما كان لسلفنا الصالح المواقف القوية المشرفة، على اختلاف مقاصدهم من ذلك الهجر، لاختلاف مقاصد الهجر في الإسلام، وقد ذكرت ذلك كله في الكتاب المشار إليه.
ومنتهى القول، أن الأصل مفاصلة أهل البدع، ولكن قد يروى عن بعض من وصم ببدعةٍ لمصالح تدعو إلى ذلك كجلالتهم في الحفظ والرواية، أو انفرادهم بعلوٍ أو إسناد، ونحو ذلك.
وقد كانت أمثال هذه الدوافع متحققة في زمن النقل والرواية، ولا تزال أشباه تلك الدوافع موجودة إلى زماننا بإباحة الرواية عمن علم بالبدعة عند الحاجة إلى ما عنده من علمٍ أو شرف علوٍ صحيح، ولكنّ هذا لا يعني التنازل عن المبادئ العقدية، أو المغالاة في الثناء على صاحب البدعة، بل كان من السلف من يحدث عن الشخص ويتهمه في دينه في وقتٍ واحد.
روى العقيلي في "الضعفاء" عن عيسى بن يونس قال حدثنا ثور وكان قدرياً.
وفي "تهذيب التهذيب" قال قتيبة حدثنا جرير الحافظ المقدّم لكنّي سمعته يشتم معاوية علانية.
وفي "سؤالات الآجري" لأبي داود قال سمعت أبا داود سئل عن عباد بن منصور فقال: أحمد بن أبي سريج، ثنا معاذ بن معاذ، ثنا عباد بن منصور على قدرية فيه.
وفي "تهذيب التهذيب" قال الحاكم كان ابن خزيمة إذا حدث عباد بن يعقوب الرواجني يقول: حدثنا الصدوق في روايته المتهم في دينه عباد بن يعقوب.
وأشباه ذلك كثير، فبيان حاله مطلوب بالعدل والإنصاف.
ولكن مثل هذا الترخص في الرواية عن أهل البدع إنما هو لخصوص عن خصوص، وليس ذلك لعمومٍ عن عموم!.
فهو لخصوص بعض الرواة من أهل السنة ممن رسخت أقدامهم في العلم، وشُهد لهم بالدراية والتفحص، عن خصوص أهل البدع ممن توفرت فيهم شروط قبول مروياتهم.
كما كانوا يتقون الرواية عن بعض أهل البدع، ويروون عنهم بواسطة إمام في السنة تمحيصاً لروايته.
وأما رواية عموم أهل السنة عن عموم أهل البدع، فهذا لا يجوز، وهو من التلاعب في الدين، والمغامرة في مؤاخاة الضلال والمجرمين، خاصة من علم عن بدعته الشرك والوثنية، كغلاة الصوفية أنصار مذهب ابن عربي وأشباهه من الزنادقة.
فهؤلاء لا تجوز الرواية عنهم ولا ذكرهم في الأسانيد مهما كانت منزلتهم، ولا وصفهم بأسمى عبارات الثناء.
¥