وقد أنكر شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب على بعض معاصريهم روايته إسناداً فيه عبدالغني النابلسي الصوفي، و وصفه له بالعارف!، فقال رحمه الله تعالى في "الدرر السنية في الكتب النجدية" (13/ 22): ولا يخفاك أني عثرت على أوراق، عند ابن عزاز، فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه، رجل يقال له: عبد الغني، ويثنون عليه في أوراقهم، ويسمونه العارف بالله؛ وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي، الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي: من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر.
فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه، هو شيخهم، ويثنون عليه أنه العارف بالله، فكيف يكون الأمر؟!، انتهى المقصود.
قلت: ولك التفتيش بعد ذلك في العديد من الأسانيد المشحونة بأهل الضلال والخرق الصوفية، والدعوة إلى الوثنية وقل من يميزها، والله المستعان.
فمثل هؤلاء لا تجوز مظاهرتهم ولا الثناء عليهم، وترك الرواية عنهم هو سبيل أهل السنة والجماعة، وقد جعلوا ذلك أصلاً من أصول عقائدهم في هجر أهل البدع، وعدم الأخذ عنهم، ونصوا عليه في كتب "العقائد".
فإن قال قائل: وكيف تصنع برواية بعض أهل العلم والسنة عن بعض أهل البدع، من المتقدمين والمتأخرين؟.
قيل: هذا من رواية الخصوص عن الخصوص كما تقدم، فهم لم يرووا عن رؤوس الضلالة والانحراف، وهُم هُم في العلم والديانة والسنة والجلالة، ومن رووا عنه إنما لتفوقه في علمٍ أو بعلوٍ ونحوه.
وأنقل للحافظ الجوزجاني كلاماً نفيساً في الترهيب من الرواية عن أهل البدع، يجدر النظر فيه، والاستفادة منه، فقال رحمه الله في آخر كتابه "أحوال الرجال" (ص:209 - 215) بتحقيق شيخنا صبحي السامرائي:
فيا لعباد الله أما لكم في المقانع من المبرزين وأهل الأمانة من المحدثين سعة ومنتدح أن تحووا حديثهم الذي رووه عن الثقات والمتقنين من أهل كل بلدة فتعتقدونه؟، فإن في حديثهم لذي فهم غنى.
لا، ولكنّ كثيرٌ منكم جار عن الطريق وجعل طلبه لهذا الشأن وجمعه نزهة وشهوة، فإذا استُعْتِبَ فيه، قال: إنما أكتبه للمعرفة!.
فيا سبحان الله، تكتب حديث أهل الصدق للمعرفة وحديث المتهمين للمعرفة!، فمتى تترك هذا؟، وعسى أن ينشأ بعدنا قومٌ فإن عوتبوا فيهم قالوا: قد روى عنه فلان فيتخذوه حجة.
فكما نقول نحن اليوم لبعض البله: لم تروي عن فلان؟.
قال: أليس قد روى عنه فلان؟!.
فقد صار حديث أهل الزيغ أيضا يطلب بالطرق المظلمة بعد الحجة الواضحة.
والحديث حديثان:
(1) حديث يراد به الله، يقيم به المرء دينه ووظيفته، فلا يقبل منه غداً إذا سئل في القيامة عن علمه: أهلُ التهم في الدين وأهل الميل عن القصد من الاتباع للحق من قِبَلِ الله بأن الله قال (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المُرْسَلِينَ) (الأعراف:6)، وقد حدثني علي بن الحسن قال سمعت عبدالله -يعني ابن المبارك- يقول: إذا ابتليت بالقضاء فعليك بالأثر.
قال علي فذكرته لأبي حمزة محمد بن ميمون السكري -من أهل مرو لا بأس به- فقال: هل تدري ما الأثر؟، أن أحدثك بالشيء فتعمل به فيقال لك يوم القيامة من أمرك بهذا فتقول أبو حمزة فيجاء بي، فيقال: إن هذا يزعم أنك أمرته بكذا وكذا، فإن قلت: نعم، خُلِّي عنك، ويقال لي: من أين قلت هذا؟، فأقول: قال لي الأعمش، فيُسأل الأعمش، فإذا قال: نعم، خُلِّي عني، ويقال للأعمش: من أين قلت؟، فيقول: قال لي إبراهيم، فيُسأل إبراهيم، فإن قال: نعم، خُلّيَ عن الأعمش، وأُخذ إبراهيم، فيقال له: من أين قلت؟، فيقول: قال لي علقمة، فيُسأل علقمة، فإذا قال: نعم، خُلّيَ عن إبراهيم، ويقال له: من أين قلت؟، فيقول: قال لي عبدالله بن مسعود، فيسأل عبدالله، فإن قال: نعم، خلّي عن علقمة، ويقال لابن مسعود: من أين قلت؟ قال فيقول: قال لي رسول الله ?، فيسأل رسول الله ?، فإن قال: نعم، خُلّي عن ابن مسعود، فيقال للنبي ?، فيقول: قال لي جبريل حتى ينتهي إلى الرب تبارك وتعالى.
فهذا الأثر، فالأمر جدٌ غير هزلٍ إذ كان يشفي على جنة أو نار ليس بينهما هناك منزل.
وليعلم أحدكم أنه مسؤول عن دينه، وعن أخذه حله وحرامه، كالذي حدثني أشهل بن حاتم عن ابن عون عن محمد قال: إن هذا العلم دين فلينظر امرؤ عمن يأخذ دينه.
¥