فيُؤْخذ حديثُهم، ويُنْظَر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم ".
وأبتدأ هذا التثبت والتحري منذ عهد صغار الصحابة الذين تأخرت وفاتهم عن زمن الفتنة، ففي مقدمة الإمام مسلم عن مجاهد قال جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه - أي لا يستمع - ولا ينظر إليه، فقال: " يا ابن عباس مالي لا أراك تسمع لحديثي، أُحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع، فقال ابن عباس: " إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف ".
ثم أخذ التابعون في المطالبة بالإسناد حين فشا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول أبو العالية: " كنا نسمع الرواية بالبصرة عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا نرضى حتى نركب إلى المدينة فنسمعها من أفواههم ".
وهذا الاهتمام البالغ بالإسناد، يبرز لنا ضرورته وأثره في علم الحديث، وذلك من خلال أوجه متعددة، أولها: أن الإسناد خاصية من خصائص هذه الأمة التي انفردت بها ولم تشاركها فيها أمة من أمم الأرض، فلم يُؤْثر عن أمة من الأمم من العناية برواة أخبارها وأحاديث أنبيائها ما عرف عن هذه الأمة، قال أبو على الجياني: " خص الله تعالى هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يُعْطِها مَنْ قَبْلها، الإسناد، والأنساب، والإعراب "، وقال أبو حاتم الرازي: " لم يكن في أمة من الأمم مِنْ خَلْقِ اللهِ آدم، أمناء يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة "، وعن طريق الإسناد يمكن تحقيق الأحاديث والأخبار، ومعرفة الرواة، فيستطيع طالب الحديث أن يقف على درجة الحديث وصحته من ضعفه، وبالإسناد تحفظ السنة وتصان من الدس والتحريف والوضع، والزيادة والنقص، وبالإسناد تُدرك الأمة منزلة السنة ومكانتها وما لقيته من العناية والاهتمام، حيث إنها ثبتت بأدق طرق النقد والتحقيق التي لم تعرف البشرية لها مثيلاً في تاريخها كله، وبذلك يُرَدُّ على دعاوى المبطلين والمشككين، وتفند شبهاتهم التي أثاروها حول صحة الحديث.
لهذه الأمور ولغيرها تواترت الأخبار واستفاضت عن الأئمة في أهمية الإسناد والحث عليه، حتى جعلوه قربة وديناً، قال عبد الله بن المبارك: " الإسناد عندي من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، فإذا قيل له من حدثك؟ بقي " أي: بقي متحيراً لا يدري ما يقول، لأنه لا إسناد معه يعرف به صحة الحديث أو ضعفه، وقال أيضاً: " بيننا وبين القوم القوائم " يعني الإسناد،، وقال الثوري: " الإسناد سلاح المؤمن، إذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل "، وقال شعبة: " كل حديث ليس فيه (حدثنا، وأخبرنا) فهو مثل الرجل بالفلاة معه البعير ليس له خطام "، وجاء عن ابن سيرين " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم "، وقال الأوزاعي: " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد "، وشبه بعضهم الحديث من غير إسناد بالبيت بلا سقف ولا دعائم ونظموه بقولهم:
والعلم إن فاته إسناد مسنده كالبيت ليس له سقف لا طنب
ونتيجة لهذا التأكيد على المطالبة بالإسناد، وما حظي به من اهتمام بالغ وعناية فائقة، نجد أن كتب الحديث التي دُونت منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري قد التزمت به، وأطلق عليها اسم المسانيد " جمع مسند "، وهو اسم ذو علاقة واضحة بقضية الإسناد، ومن أشهر هذه المسانيد، مسند معمر بن راشد (152هـ)، ومسند الطيالسي (204هـ)، ومسند الحميدي (219هـ)، ومسند أحمد بن حنبل (241هـ)، ومسند الشافعي (204هـ)، وغيرها من كتب المسانيد، وكانت هذه المسانيد هي العمدة للمؤلفين الذي جاؤوا من بعد، فعولوا عليها واعتمدوها مصادر لهم، واستمر نهج العلماء الذين كتبوا الصحاح والمسانيد والسنن والمصنفات والموطآت على هذا النهج في التزام الإسناد التزاما دقيقاً.
كل هذا يؤكد لنا أهمية الإسناد في علم الحديث، ومدى عناية الأمة به، وأنه مما حفظ الله به دينه من الضياع والتحريف، تحقيقاً لوعد الله في حفظ ما أَنْزَل من الذكر {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9).
ـ[فاطمه بنت عياش]ــــــــ[14 - 03 - 09, 10:55 م]ـ
جزاك الله خير الجزاء على ما تقدمه في سبيل العلم ونشره .....
ـ[عمر السلمي]ــــــــ[15 - 03 - 09, 12:11 م]ـ
أيها الأخة المباركة:
والله اشتغالك بالفقه أنفع لك وللمسلمين إذ نفعه متعدي وليس بقاصر.
فإن كان من نصيحة:
أولاً: رتبي وقتك ترتيبًا لا يكون فيه بإذن الله قدر الاستطاعة انقطاع ولو أنه متعذر إلا على من وفقه الله.
ثانيًا: إجعلي يوم يكون فيه حفظ متن ويوم آخر لقراءة الشروح الموجودة على هذا المتن وتبدأين بالأيسر منها والمختصر وتاخذينه مسألة مسألة.
وعليك بمتن الزاد فوالله إنه لنافع جدًا. ويمتاز بكثرة الشروح عليه.
ثالثاً: اجعلي يوم للنحو حتى تتمين فيه متن كامل حفظًا واستشراحًا مثل الآجرومية وعليه شروح كثيرة ومن أقواها وأنفعها حسب ما مر علي شرح الشيخ الهرري حفظه الله.
نصيحة لله حاولي أت تقتصدي في السير الذي لا يضرك ويوم الفقه للفقه ويوم النحو للنحو وهكذا ولا تنسي مراجعة القرآن والورد اليومي وحفظ كل يوم حديث على الأقل من العمدة أو البلوغ ولن تكون إلا مدة يسيرة بإذن الله وتكونين قد قطعت قدر كبير.
حاولي وضع جدول زمني بحيث تتمين كتاب العبادات من الزاد في سنة مثلاً. وكذلك النحو.
ولا تنسي المراجعة فإنها أهم من الحفظ الجديد.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
¥