تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

المسلمين الأثرياء الذين يملكون نصابَ الزكاة؛ فتناوُلها يُسَبِّب الظلمةَ الفكريَّةَ والعتمةَ القلبيَّةَ، فحبّذا لو امتنعنم عنها إذا كان ذلك بوسعكم. قلنا: إننا طلابٌ مُعْدِمُون، لانملك ما نستند إليه في حوائجنا اليوميّة حتى في أوطاننا، فكيف بنا ونحن غُرَبَاءُ عن الوطن غَادَرْنا أوطانَنا طُلاَّبًا لعلوم الدين؟. فقال الشيخ عزيز الرحمن رحمه الله: إذن يجوز لكم ما تتناولونه من الوجبات الجامعيّة المجّانيّة، ويؤسفني جدًّا أنني أَشَرْتُ عليكم بما أنتم لاتقدرون عليه.

ظَلَّ رحمه الله على هذا الودّ الصافي لنا والعطف واللطف البالغين بنا مادمنا طلاّبًا بالجامعة، وفارقناها فبقي على اتّصال بنا عن طريق المراسلات واستخبار أحوالنا بواسطة من يزور الجامعة من وقت لآخر.

ثم صرتُ أستاذًا بالجامعة في عام 1402هـ/ 1982م، فسُرَّ بذلك كثيرًا كما يُسَرُّ الوالدُ العطوف بولده إذا حَقَّقَ مكسبًا كبيرًا يتّصل بالدنيا أو الآخرة. وكثيرًا ما كنتُ أجلس إليه في مجلس ينتظم بغرفته في محيط مبنى "الجامعة الطبيّة" أو بغرفة الشيخ الكاتب الإسلامي الفقيه المفتي محمد ظفير الدين المفتاحي حفظه الله (1344هـ - ... = 1926م - ... ) المفتي بالجامعة سابقًا أو بغرفة الشيخ المحدث محمد حسين البيهاريّ رحمه الله (1321 - 1412هـ = 1903 - 1992م) الأستاذ بالجامعة سابقًا. وقد لَعِبَ دورًا كبيرًا في إيناسنا وتهيئتنا ذهنيًّا للبقاء أستاذًا في الجامعة في ذلك المناخ المُكَهْرَب بالهرج والمرج بعدما سيطرت عليها الإدارةُ الجديدةُ – لأسباب لا يعنينا ههنا ذكرها – التي أقصت عنها الإدارةَ القديمةَ التي كان يقودها العالم الهنديّ الفريد ترجمانُ الإسلام الكبير ولسانُه البليغ في الديار الهندية في عصره: الشيخ المقرئ محمد طيب رحمه الله حفيد مؤسس الجامعة الإمام الهمام وسند الإسلام في عصره في الديار الهندية الشيخ محمد قاسم النانوتوي رحمه الله تعالى (1248 - 1297هـ = 1832 - 1880م).

كان أَبْيَضَ مائلاً إلى السُّمْرَة، رَبْعَةً من الرجال، مفتولَ الأعضاء لحدّما، كثَّ الحاجبين، قليلَ أشعار اللحية، عيناهُ تتوقّدان ذكاءً، وتشفّان عن فطنة طبيعيّة، واسعَ الجبين، أشمَّ الأنف، يخطو تَكَفُّأً، طلقَ الوجه، ترقص الابتسامةُ دائمًا على شفتيه، فإذا دَهَمَته مهمةٌ غَرِق في تفكير طويل وصمت عميق، مُطَّلِعًا على الأحوال الحاضرة، مُعَلِّقًا على الظروف، مُحَلِّلاً للأنباء، بصيرًا بطبائع الناس، خبيرًا بدخائلهم من خلال سلوكهم في الحياة، وتعاملهم مع الناس، ونَبْرَتهم في الحديث العامّ، ناصحًا لمعارفه، حريصًا على خيرهم، مواظبًا على آداب الدين وأحكامه، مُحَافِظاً على صلاة الجماعة، لاتفوته تكبيرةُ الإمام الأولى، مهتمًا بحضور الصفّ الأوّل، محترزًا من الناس إلاّ فيما يعنيه دونما كُرْهٍ لهم أو عداء معهم.

ولئن غَادَرَ رحمه الله هذه الدنيا التي لابدّ أن يُغَادِرها كلُّ من أَتَى3 إليها؛ فإنه لن يغادر قلوبَنا التي شَغَفَها حبًّا بحسن سيرته، وصفاء سريرته، وكريم أخلاقه، وطيب نفسه، وخفّة روحه، ومواساته المُتَنَاهِيَةِ، وسخاء يده، ورحابة صدره، وذكائه الكبير الذي كان سمةً لشخصه.

وما أَكْبَر وأَسْعَدَ الإنسانَ الذي يبقى حيًّا بعد الموت، الذي لايُمِيْتُه؛ فيفقد – الموتُ – معناه وحقيقتَه؛ حيث يُمِيت جسمَه ولا يُمِيت ذكرَه، ويُغِيبه جسديًّا ولا يُغِيبه روحيًّا، فيبقى نشيدًا خالدًا على فم الزمان، ورسمًا محفورًا في جبين التاريخ، وذكرى خالدة في قلوب الذين يكون قد زرع فيها حبّه الذي لاتمحوه قوّةٌ في الكون.

نما إلى أذنيّ نعيُ وفاته رحمه الله، فجال في ذاكرتي هذا الشريطُ الجميلُ الطويلُ من الذكريات اللّذيذة العزيزة، وخِلْتُ أنه رحمه الله لدى كتابةِ هذه السطور، ماثلٌ أمام عَيْنَيَّ، يضاحكنا بفقراته الساخرة، وجُمَله المثيرة للمعاني، وكلماته المُعْجِبة المُطْرِبَة، ذات الدلالات البارعة، والإشارات اللطيفة.

كلُّ إنسان يموت ويخضع لعمليَّة الموت، وينهار لدى قسوته وجبروته، إلاّ الإنسان الحيّ بحسن سيرته، وجميل سلوكه، والمسرّاتِ التي كان يُوَزِّعها مَجَّانًا على الإخوان وأبناء الإنسان، والأحزانِ التي كان يقتلها شرَّ قِتْلَة قبل أن تُؤْذِي معارفَه ومحبّيه، والحسناتِ التي كان يُؤَدِّي بها الحقوقَ، ويكسب بها القلوبَ، ويفعل بها الخيرات التي تزكو على الإنفاق.

كان الشيخُ عزيز الرحمن ذاك الإنسانُ الحَيُّ بعد الموت، والحاضرُ بعد الغياب، والماثلُ بعد الخفاء. جَزَاه اللهُ عن كلِّ خير أسداه إلى أحد في حياته، وكلِّ حسنة فعلها لربّه وابتغاء وجهه، وأَدْخَلَه فسيح جنّاته، والحمدُ لله رب العالمين.

(تحريرًا في الساعة 11 من صباح يوم الأحد: 14/شوال 1430هـ = 4/أكتوبر 2009م)

منقول من محرر مجلة الداعي الهندية

قال يحيى الغوثاني: ولقد أكرمني الله تعالى بالاستجازة من شقيق المترجم الشيخ الدكتور سعيد الأعظمي الندوي رئيس تحرير مجلة "البعث الإسلامي" ومدير دارالعلوم ندوة العلماء – لكهنؤ بالهند، أحد العلماء الأجلاء وكبار أدباء العربية والكُتّابين المعدودين على الأصابع في شبه القارة الهنديّة حفظه الله.

مصدر الخبر هنا ( http://montada.gawthany.com/VB/showthread.php?t=23574)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير