وقد اتفق في زمانه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، كان يقرأ الفقه على أشياخه، أن امرأة غسلت ميتة، فلما وصلت إلى فرج الميتة، ضربت بيدها على فرجها، وقالت: يافرج ما كان أزناك، فامتسكت يدها على الفرج، والتحمت فما استطاع أحد إزالة يدها، فسئل الفقهاء: ما الحكم في ذلك؟، فمن قائل تقطع يدها، ومن قائل يقطع من بدن الميتة قدر ما مسكت عليه اليد، وطال في ذلك النزاع بين الفقهاء، أي حرمة أوجب علينا؟، هل حرمة الحي فلا يقطع منه شيء؟ أم حرمة الميت فلا يقطع منه شيء؟، فبينما هم كذلك إذ دخل مالك في جملة الصبيان الطلبة، فقال مالك: أرى الحكم في ذلك أن تجلد الغاسلة ثمانين جلدة حد الفرية، فإذا كانت افترت فان يدها تطلق، فجلدت الغاسلة حد الفرية، فطلقت يدها، فتعجب الفقهاء من ذلك، ونظروا مالكا بعين التعظيم، وألحقوه بالشيوخ، كما كان عمر بن الخطاب يلحق عبد الله بن عباس بأهل بدر، لعظم قدره في العلم،
وأما سبب محنته رضي الله عنه،ومن ضربه فيها، فاختلف فيها فروى ابن عبد البر بسنده عن مروان الطاطرى أن أبا جعفر المنصور نهى مالكا عن الحديث، ((ليس على المستكره طلاق)) ثم دس إليه من يسأله عنه، وحدث به على رؤوس الناس، فضربه بالسياط،
قال إبراهيم بن حماد: كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من محبسه يحمل يده اليمنى أو يده اليسرى بالأخرى
وقيل: انه أفتى عند قيام محمد بن عبد الله العلوي، بأن بيعة أبى جعفر لا تلزم، لأنها على الإكراه، وعلى هذا
أكثر الروايات،،
وروى عن محمد بن عمر أنه قال: لما دعي مالك بن أنس، وشوور، وسمع منه، وقيل عنه، حسده الناس ورموه بكل شيء، فلما ولى جعفر بن سليمان بن على بن عبد الله المدينة، سعوا به إليه، وكثروا عليه عنده، فقالوا: انه لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت الأحنف، في طلاق المكره انه لايجوز، فغضب جعفر بن سليمان، فدعا بمالك، فاحتج إليه بما رفع إليه عنه، ثم جرده ومدده، فضرب بالسياط، ومدت يده حتى انخلعت كتفه، وارتكب منه أمرا عظيما، فوالله مازال مالك بعد ذلك الضرب في رفعة من الناس، وعلو من أمره، وإعظام الناس له، وكأنما كانت تلك السياط التي ضرب بها حليّا حلى بها،
وذكر ابن الجو زى في شذور العقود في سنة أربع وأربعين ومائة، قال: وفيها ضرب الإمام مالك سبعين سوطا، لأجل فتوى لم توافق غرض السلاطين، والله أعلم، واختلف في مقدار ضربه من ثلاثين إلى مائة، ومدت يداه حتى انخلعت كتفاه، وبقى بعد ذلك أيامه مطلق اليدين، لايستطيع أن يرفعهما، ولا أن يسوى بهما رداءه،ولما حج المنصور، أقاده جعفر بن سليمان، فقال: أعوذ بالله، والله ما ارتفع منها سوط عن جسمي إلا وأنا أجعله في حل من ذلك الوقت، لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وقيل: حمل مغشيا عليه، فلما أفاق ودخل الناس عليه، قال: انى جعلت ضاربي في حل، ثم قال في اليوم الثاني: انى تخوفت أن أموت أمس، فألقى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستحي منه، أن يدخل بعض آله النار بسببي، فما كان إلا مدة حتى غضب المنصور على ضاربه، فضربه ونال منه أمر شديد،
قال الداودى: سمعت أنه كان حين ضربه يقول: اللهم اغفر لهم، فإنهم لايعلمون، وكان ضربه سنة ست وأربعين، وقيل سنة سبع وأربعين، وكان يقول: ضربت فيما ضرب فيه ابن المذكور، وربيعة، وابن المسيب،
ويذكر قول عمر بن عبد العزيز: ما اغتبط أحد لم يصبه في هذا الأمر أذى، قال الجيانى: مازال مالك بعد ذلك الضرب في رفعة من الناس، وإعظام حتى ما كانت الأسواط إلا حليا حلى بها رحمه الله،
وقال الواقدى: كان مالك يأتي إلى المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة، والجنائز ويعود المرضى، ويقضى الحقوق، ويجلس في المسجد، وكان يصلى وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، وكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله، فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحدا يعزيه، ولا يقضى له حقا، فاحتمل الناس له ذلك،فكانوا أرغب ما كانوا منه، وأشدهم له تعظيما حتى مات عليه،
وكان ربما قيل له في ذلك، فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره،
¥