"واعلم أنك لا تقضي لنا حاجة إلا قضينا لك مثلها. ولا تقبضْ عنا يدك فوالله إنه لتجيء منك الفلتة من الحرمان فكأنما جاءت من غيرك، يشك فيها الشاهد، ويكذب بها الغائب، ويطلب لها أهل الرأي المخرج لك منها حتى ييأسوا لك من العذر ما يجوز الحرمان، وكذلك بحظك الغالب، وقدرك الجالب".
من حديث عبد الله بن جعفر هذا نلاحظ أنه استطاع أن يوفي معاوية حقه، ويحفظ له مكانته، ولكن الحديث بينهما لم يكن حديث الرئيس والمرؤوس، لم يكن هناك رعية تطلب حاجة، وخليفة تطلب منه هذه الحاجة، ولكنه خطاب الند للند، ومصالح متبادلة بين أبناء العم السادة، ولم يكن معاوية يتوقع غير ذلك من عبد الله بن جعفر، بل إنه وجد في قوله ما أثلج صدره، وأعطاه مما كان يتوقع من الثناء والتقدير، إلا ما كان من دالة عبد الله عليه بإشاراته إلى الحاجات المتبادلة بينهما. وكأن منزلة عبد الله بن جعفر في نفسه لا يقلقها إلا ذلك الود المتبادل بينه وبين علي رضي الله عنه. نلاحظ بعض هذا في قول معاوية: "حسبك. فما يتسع بيت مالي لمكافأتك، والله ما في قريش رجل أحبُّ أن يكون ابن هند منك، ولكني إذا ذكرت مكانك من علي، ومكان علي منك انقبضت عنك. ثم أذكر أني لا أقيس بك رجلاً من قريش إلا عظمت عنه ولا أزنك إلا رجحت به، فعطفت عليك، فالغالب على ذلك الأوليان بك مني: وسيلة لا أحب دالتها، وأثرة لا أستكثر عطيتها .. وأما أن تقضي من حقي ما أقضي من حقك فإني لا أكون على حال إلا وفي يديك مني أكثر مما في يدي منك".
ثم قضى حاجاته، وسدّد ديونه. فغضبت قريش الشام، وقالت: "نظن معاوية هائباً لابن جعفر" فكان جواب معاوية شعراً رائعاً من أرق الشعر وأعذبه. ولعلنا لا نبالغ حين نقول: إنه من أحسن ما قيل في اللوم والعتاب:
تقول قريش حين خفت حلومها ** نظن ابن هند هائباً لابن جعفر
فمن ثم يقضي ألفَ ألفِ ديونه ** وحاجته مقضية لم تؤخر
فقتل: دعوا لي، لا أباً لأبيكم ** فما منكم فيضي له غير أعور
أليس فتى البطحاء ما تنكرونه ** وأول من أثني بتقواه خنصري
وكان أبوه جعفر ساد قومه ** ولم يك في الحرب العوان بحيدر
فما ألف ألف فاسكتوا لابن جعفر ** كثير، ولا أمثالها لي بمنكر
ومما يميز معاوية بين الخلفاء والقادة مقدرته على إخماد الفتنه، وتهدئة النفوس بأسلوب المداعبة والفكاهة. من ذلك ما رواه التاريخ من طريق السعيدي قال (10):
"هجا عقيْبةُ الأسديُّ أبا بردة بن أبي موسى فقال:
وأنت امرؤ في الأشعرين مقابل ** وبالبيت والبطحاء أنت غريب
وما كنت زواراً لأمك بالضحى ** ولا بمزكيها بظهر مغيب
فإن عاد عدنا لابن طغية مثلها ** وإن آب منها فاللئيم يؤوب
فخرج أبو بردة إلى معاوية فشكا إليه عقيبة، وقال: هتك عرضي. فقال له معاوية: وما قال لك؟ قال:
وأنت امرؤ في الأشعرين مقابل ** وبالبيت والبطحاء أنت غريب
وقد صدق. وقال لك:
وما كنت زواراً لأمك بالضحى ** ولا بمزكيها بظهر مغيب
ولم تكن زواراً لأمك. وقد قال لي ما هو أشد من هذا قال:
فهبها أمّةً هلكت ضياعاً ** يزيد أميرها وأبو يزيد
معاوي إننا بشر فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا فجردتموها ** فهل من قائم أومن حصيد
ارفع يديك ندع الله عليه. فرفع، ورفع أبو بردة فدعوا الله عليه".
وكما فطر الله العربي على الفصاحة والجرأة والشجاعة فطره أيضاً على حب الأدب وتذوق الشعر، وتمييز غثه من سمينه. وكذلك كان معاوية، فقد كانت له مجالس أدبية يحكم فيها ذوقه بما يسمعه من الشعر، ويحكم سامعيه، ويكافئ على ذلك مكافأة كبيرة. ولم ينس السعيدي أن ينقل لنا جانباً من هذه المجالس، منها هذه الندوة الأدبية التي مثل فيها معاوية بن أبي سفيان دور الحكم، وعبد الله بن الزبير دور الراوي، قال (11): "أذن معاوية للناس يوماً، فدخلوا عليه، فاحتفل المجلس وهو على سريره، فأجال بصره فيهم ثم قال: أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة من أجمع ما قالتها. ثم قال: يا أبا خبيب: فقال: مَهَيم؟ قال: أنشدني ثلاثة أبيات لقدماء العرب جامعة من أجمع ما قالتها. قال: نعم يا أمير المؤمنين بثلاثمائة ألف. قال معاوية: إن سارت. قال: أنت بالخيار، وأنت واف كاف. قال: نعم. فأنشده للأفوه الأودي:
بلوت الناس قرناً بعد قرن ** فلم أر غير ختال وقال
فقال: صدق.
¥