تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ولم أر في الخطوب أشد وقعاً ** وكيداً من معاداة الرجال

قال: صدق.

وذقت مرارة الأشياء طرّاً ** فما شيء أمر من السؤال

فقال: صدق. هيه يا أبا خبيب، قال: إلى ها هنا انتهى بي. قال: فدعا معاوية بثلاثين عبداً على عنق كل واحد منهم بدرة فمروا بين يدي ابن الزبير حتى انتهوا إلى داره".

تعمق هذه الحكاية صفتين أساسيتين عرف بهما عبد الله بن الزبير في التاريخ وهما: الحرص على جمع المال، وحسن التمثل بالشعر، وكم رأيناه متمثلاً به، واضعاً كل بيت موضعه المناسب، وها هو في هذا الخبر يختار ثلاثة أبيات جامعة فيها خلاصة تجارب طويلة في الحياة. ودستور موجز مركز يحذر الإنسان من الناس كما يحذره من الاطمئنان إليهم، ويحثه على الحرص خوفاً من الحاجة وذل السؤال.

في مثل هذه الأخبار الأدبية لا تهمنا صحة الرواية بقدر ما يهمنا المعنى الذي تنقله، والأسلوب الذي تروى فيه ومدى مطابقة ذلك للواقع التاريخي. وسواء صحت الرواية أم لم تصح فإننا أمام صورة صادقة لمجالس معاوية، وما كان يدور فيها. وكما يهمنا في القصة الصدق الفني، كذلك يهمنا في هذه الأخبار أن تكون صورة العصر، يهمنا أن نقول: هكذا يتكلم معاوية حقاً، وهكذا كان يتكلم عبد الله بن الزبير حقاً، وكما نحرص في القصة أن نجد تجربة فنية صادقة، كذلك يهمنا أن نجد خبراً تاريخياً صادقاً يقبله العقل، ولا يرفضه منطق التاريخ في القرن الأول الهجري، ومع ذلك فإن التجارب علمتنا أن هناك تلازماً بين منطق التاريخ وصحة الرواية، وهو أيضاً ما أوصلتنا إليه معرفة أحوال الرجال ودراسة الأسانيد.

قلت فيما تقدم أن مؤلف كتاب المجالسة أموي سعيدي، وهذا ما يجعلنا نعتقد لأول وهلة أنه يحمل نزعة خاصة القصد منها الدفاع عن بني أمية بشكل عام، ومعاوية الخليفة بشكل خاص، ونظن أن السعيدي عمل على جمع الأخبار التي من شأنها إعلاء مكانة معاوية وإبراز مزاياه الحميدة، وفعاله الصالحة، ولكننا ما نكاد نبدأ بقراءة الأخبار حتى نحس بروح موضوعية تحكي ما لمعاوية وما عليه.

ويصح أن نقول: إننا بعد أن نقرأ عدداً من الأخبار يخيل إلينا أننا أصبحنا نعرف معاوية أكثر مما كنا نعرفه، ولكن ليس أفضل مما كنا نعرفه، هناك كثير من الأشياء كنا نجهلها مما يمكن أن يكون خيوطاً متينة في نسيج التاريخ الصحيح، منها علاقة معاوية بعبد الله بن الزبير، ونوع الود الذي كان يربط بينهما، والأسلوب الذي كان يعامل به معاوية هذا الصحابي الخطير الذي كان يحمل في نفسه ونسبه وقربه من الرسول r ما لا يحمله سواه بعد علي وابنيه.

روت أخبار المجالسة أنه كان في مجلس معاوية أكثر من مرة، وروت لنا أيضاً أنه كان لا يترفع عن نيل عطائه، بل إنه ليطمع في هذا العطاء أشد الطمع، أما معاوية فإنه كان يعطيه الكثير، يجود عليه جوداً يتناسب مع منزلته في قريش، ولعله لم يقصد بذلك أن يتألفه فقط، ولكنه أراد أن يشبع غريزة عرفها التاريخ في ابن الزبير، وعرفها معاوية حق المعرفة فيقطع لسانه، ومع هذا فلم يكن بين الرجلين ذلك الود الكبير الذي ترتاح إليه النفس، ويطمئن إليه القلب، كان في أعماقهما الكثير مما تعبر عنه فلتات اللسان أحياناً ورب هزل أعظم من الجد في الكشف عن الضمائر، وإظهار ما تنطوي عليه الدخائل ومثل هذا قد لا نسمعه في مجلس عام ولكن حيث تجمع الظروف الرجلين الكبيرين.

يروي الحافظ من طريق السعيدي في المجالسة (12) "أن معاوية قدم المدينة، فأقام بها، فأكثر الناس، وعرضوا له يسألونه، فقال يوماً لبعض غلمانه: أسرج لي بغلتي، إذا قامت صلاة العصر، فأسرج له البغلة، فلما صلى العصر جلس عليها، ثم توجه قبل الشام، وصحيح في الأثقال والناس، وتبع معاوية من تبعه. ويدركه ابن الزبير في أول من أدركه، فسار إلى جانبه ليلاً وهو نائم ففزع له، فقال: من هذا؟ فقال ابن الزبير: أما إني لو شئت أن أقتلك لقتلتك. قال: لست هناك، لست من قُتال الملوك، إنما يصيد كل طائر قدره. فقال ابن الزبير: أما والله لقد سرت تحت لواء أبي إلى ابن أبي طالب، وهو من تعلم، فقال: لا جرم والله، لقد قتلكم بشماله. فقال: إما أن ذلك في نصرة عثمان ثم لم نجزَ بها. قال: والله ما كان بك نصرة عثمان، ولولا بغض علي بن أبي طالب لجررت برجلي عثمان مع الضبع. قال: لقد فعلتها، أنا قد أعطيناك عهداً فنحن وافون لك به ما عشت، فإن مت

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير