فسيعلم من بعدك! فقال: والله ما أخافك إلا على نفسك، ولكأني بك قد خبطت في الحبالة واستحكمت عليك الأنشوطة، فذكرتني وأنت فيها فقلت: ليت أبا عبد الرحمن لها؛ ليتني والله لها، أما والله لحللتك رويداً، ولأطلقتك سريعاً، ولبئس الولي أنت تلك الساعة".
إن قارئ هذا الخبر سوف يدرك بُعدَ ما ينطوي عليه من تلخيص دقيق للصراع السياسي بين المسلمين، هذا الصراع الذي بدأ بمعركة الجمل، وانتهى بمقتل عبد الله ابن الزبير، وذلك التحليل الدقيق لنفسية عبد الله بن الزبير والإرهاص بالأحداث التي ستؤدي إلى ما أدت إليه.
وسواء صحت الرواية أم لم تصح، وسيان كان معاوية هو من قدر هذا التقدير كله أم راوٍ أحكم نسيج الخبر، وأدخل فيه ما أراد إدخاله من حسن تقدير معاوية –وهو ما يستبعد- فإنه وثيقة سياسية هامة لمؤرخ أحداث المائة الأولى للهجرة لأن فيه كل ما كان بين عبد الله ومعاوية من مودة ظاهرة تحمل في طياتها الكثير مما فسرته الأيام المقبلة، كان عبد الله بن الزبير يظهر لمعاوية طاعة تحتها حقد، وكان معاوية يظهر له حلماً تحته غضب، ولكن كلا منهما عرف قدر خصمه تمام المعرفة ففضل المداراة والمجاملة على أي شيء آخر.
ليت مؤلف الكتاب سماه: داهية العرب معاوية بن أبي سفيان، ولكن مثل هذا العنوان لن يشد القارئ ويرغبه كما فعلت كلمة "المجالسة"، وقد وفق المؤلف تمام التوفيق في اختيار أخبار لمعاوية مع رعيته فيها كثير من الطرافة، والرغبة في المداعبة؛ مثال ذلك ما رواه عن خديج خادم معاوية قال له (13): "ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري. فدعوته –وكان آدم شديد الأدمة- فقال: دونك هذه –يعني جارية- بيض بها ولدك".
والحقيقة أن كل خبر من الأخبار التي يرويها ابن عساكر من طريق المجالسة يزيد في توضيح معالم الصورة التي رسمها التاريخ لمعاوية بن أبي سفيان، ويزيدنا قناعة بضرورة لملمة أجزاء هذا الكتاب من التاريخ وبعثه من جديد، ليس من أجل معرفة أخبار معاوية. ودراسة سياسته في هذه المرحلة الهامة من مراحل التاريخ العربي ولكن من أجل الكشف عن جوانب هامة من هذا التاريخ لا يمكن أن تتضح على حقيقتها إلا في نتف مبعثرة من الأخبار، قد تبدو قليلة الأهمية مطبوعة بطابع الإمتاع والمؤانسة ولكنها تحمل في طياتها حياة أمة، وملامح جيل، فيها آماله وأحلامه، ومبادئه وأهدافه.
استطاع معاوية بن أبي سفيان بدهائه وحكمته أن يتربع على كرسي الخلافة ولكنه لم يستطع أن يقنع عامة العرب والمسلمين أنه ليس هناك من هو أحق منه بالخلافة، وأن هناك عاطفة دينية من جهة، ونعرة قبلية من جهة أخرى اتحدتا جميعاً لتكونا مرجلاً تغلي بن نفوس الناس يمنعها من الانفجار تلك المسارب الضيقة التي هيأها لها معاوية بحلمه ورحابة صدره. وكم من مرة أراد فيها أن يعبث بخصومه فإذا بعبثه هذا يتحول إلى حمم لاهبة يقذف بها خصومه في وجهه فلا يجد جواباً لها إلا الصمت خوفاً من الفتنة.
روى الحافظ ابن عساكر من طريق المجالسة قال (14):
"زعموا أن معاوية جلس ذات يوم بين يديه السماطان، فدخل الناس وأشراف العرب، ودخل فيمن دخل شريك بن الأعور الحارثي وافداً، فلما اطمأن به مجلسه نظر إليه معاوية فقال: ما اسمك؟ قال: شريك. فقال معاوية: ما لله من شريك. وإنك لأعور، والصحيح خير من الأعور، وإنك لدميم، والجميل خير من الدميم، فيم سدت قومك؟ فقال له شريك: والله لقد أحميت أنفي ولابد من إجابتك، فوالله إنك لمعاوية، وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت، وإنك لابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنك لابن حرب، والسلم خير من الحرب، وإنك لابن أمية، وما أمية إلا أمة صغرت فاستصغرت، فيم سدت قومك؟
فقال: يا غلام، أقمه، فقام شريك وأنشأ يقول:
أيشتمني معاوية بن صخر ** وسيفي صارم، ومعي لساني
وحولي من ذوي يَمَنٍ ليوث ** ضراغمة تهش إلى الطعان
يعيرني الدمامة من سفاهٍ ** وربات الحجال من الغواني
ذوات الدل في حِبرات عَصب ** يحبون الهِجان من الحسان
فلا تبسط لسانك يابن حربٍ ** علينا إذْ بلغتَ مدى الأماني
فإن تك للشقاء لنا أميراً ** فإنا لا نقر على الهوان
وإن تك من أمية في ذراها ** فإني من بني عبد المَدان
¥