هذا الخبر الذي رواه ابن عساكر من طريق المجالسة عن شريك تناقلته كتب الأدب والتاريخ بروايات مختلفة أقربها إلى الصدق، وأبعدها عن السخف والمبالغات ما نقله لنا ابن عساكر من طريق المجالسة ومن طريق آخر أيضاً.
ومهما يكن نصيب هذا الخبر من الصحة فإننا نجد في الأبيات المتقدمة صورة تلك النقمة التي كانت تنطوي عليها نفوس كثير من العرب لا تكاد تجد لها متنفساً حتى تنطلق هادرة صاخبة.
وشبيه بخبر الأعور مع معاوية خبر الأحنف بن قيس.
روى ابن عساكر من طريق السعيدي (15) "أن الأحنف بن قيس دخل على معاوية فقال له معاوية: أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين، والمخذل عن أم المؤمنين؟
فقال: يا معاوية، لا تَرُدَّ الأمور على أدبارها، فإن السيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا، والقلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والله لا تمد إلينا شبراً من غدر إلا مددنا إليك ذراعاً من خَتر (16)، ولئن شئت لتستصفين كدر قلوبنا بصفو من عفوك، قال: فإني أفعل.
إن كل من يقرأ هذه العبارات الموجزة البليغة سوف يدرك كيف أن الأحنف أورد معاوية وأصدره بجمل قليلة مؤثرة فيها اللين، وفيها الشدة، ولن يجد غرابة في ذلك فهو الأحنف بن قيس، هذا الرجل الذي ضرب العرب بحلمه ودهائه المثل. لم يمنعه مركز الخليفة معاوية من أن يذكره بأنه هو من هو في العرب، وأن غضبه سيجر ثورة لا يستطيع الخليفة إخمادها. وقد روى أن ابنة لمعاوية أو زوجة قالت له –وكانت تسمع ما يدور بينه وبين جليسه من وراء الستار: من الذي يهدد أمير المؤمنين؟ فقال: رجل إذا غضب غضب له مائة ألف سيف لا يسألونه لماذا غضب. وكذلك فإن الغضب لم يمنع الأحنف من أن يؤكد لمعاوية أنه ما زال مستعداً أن يبدأ معه صفحة جديدة من الود والصفاء إذا عرف كيف يعفو ويصفح عما مضى.
وكم يتمنى معاوية أن يسمع كلمة مداراة من خصومة يشم فيها رائحة الثناء عليه، وذكر مزاياه وفضائله، ولكن هؤلاء الخصوم كانوا أعنف من أن يحنوا رؤوسهم أمام خليفة وصل إلى الخلافة بالمكر والدهاء، وهم يعتقدون أن في الأمة من هو أحق منه في منصبه ذاك.
روى ابن عساكر من طريق السعيدي قال (17):
"قدم على معاوية قوم من أهل الكوفة فيهم صعصعة بن صوحان العبدي وعبد الله بن الكواء اليشكري، فأنزلهم معاوية داراً من دور دمشق، وأمر ألا يخرجوا منها. وكان في الدار مسجد يخرجون إليه، ويتحدثون فيه. فبينا هم يتحدثون إذا أقبل معاوية حتى دخل إليهم فقال: هذا خير لكم من الفتنة. أنشدكم الله، أي رجل أنا؟ فسكتوا. ثم نشدهم مرتين فقال له ابن الكواء: أما إذا نشدتنا الله فإنك واسع الدنيا ضيق الآخرة، قريب المرعى، بعيد الثرى، تجعل الظلمات نوراً والنور ظلمات.
فقام ولم يقل شيئاً. فلما أصبح أمر لهم بجوائزهم وردهم إلى الكوفة.
مما تقدم ومن بعض أخبار الوافدات على معاوية التي رواها الحافظ من طريق السعيدي (18) يتبين لنا أن كتاب "المجالسة" يحكي لنا ذيول معركة صفين، ويحضر في أذهاننا صورة الرماد الكثيف المتبقي من المعركة، والذي كان يدفن تحته جمراً لاهباً لا يحس به غلا من يحرك ذلك الرماد. وكان معاوية يحاول في كثير من الأحيان أن يكشف عن الجمر المتبقي لكي لا تخطئ معاييره السياسية في إدارة شؤون الأمة.
وهناك في كتاب المجالسة أخبار طريفة تخص معاوية وأقرباءه الأدنين بناته وأخواته وأبناءه، هذه الأخبار تبدو لنا على جانب كبير من الأهمية لأنها تعطينا صورة للأسلوب الذي كان يتألف به معاوية الناس، وتبين بعض العلاقات السياسية والاجتماعية التي كانت تربط بين العرب، وكيف أن نخوة الجاهلية بدأت تتسرب إلى النفوس (19)، ما زال صوت رسولهم يرن في آذانهم "إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء والأجداد".
¥