ونهى الراعي في إعلام السائل عن الماء وما يرده، وقال: "يا صاحب الميزاب لا تخبره"، فإن خطر بالبال نوعُ احتياط في الطهارة، كالاحتياط في غيرها في مراعاة الإطالة، وغيبوبة الشمس، والزكاة، فإنه يفوتُ من الأعمال ما لا يفي به الاحتياط في الماء، الذي أصله الطهارة.
وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي وركب الحمار وما عرف من خلقه التعبد بكثرة الماء. وقد توضأ من سقاية المسجد. ومعلوم حال الأعراب الذين بان من أحدهم الإقدام على البول في المسجد. وتوضأ من جرة نصرانية وما احترز تعليمًا لنا وتشريعًا. وأعلمنا أن الماء أصله الطهارة. وتوضأ من غدير كان ماؤه نقاعة الحناء.
فأما قوله: "تنزهوا من البول" فإن للتنزه حدًا معلومًا. فأما الاستشعار: فإنه إذا نما وانقطع الوقت، ولا يقتضي مثله الشرع.
ندم ابن عقيل – تأمل أخي القارئ-:
وكان ابن عقيل رحمه الله من أفاضل العالم، وأذكياء بني آدم، مفرط الذكاء، متسع الدائرة في العلوم. وكان خبيرًا بالكلام، مطلعًا على مذاهب المتكلمين. وله بعد ذلك في ذم الكلام وأهله شيء كثير، كما ذكر ابن الجوزي وغيره عنه أنه قال: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، ما عرفوا الجوهر والعَرض. فإن رضيتَ أن تكون مثلهم فكن، وإنْ رأيتَ أنَّ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر، فبئس ما رأيتَ.
وذُكر عنه أنه قال: لقد بالغتُ في الأصول طول عمري، ثم عدتُ القهقرى إلى مذهب المكتب.
استنباطات ابن عقيل:
وكان رحمه اللّه بارعًا في الفقه وأصوله.- وله في ذلك استنباطات عظيمة حسنة، وتحريرات كثيرة مستحسنة. وكانت له يد طولى في الوعظ، والمعارف. وكلامه في ذلك حسن، وأكثره مستنبطٌ من النصوص الشرعية، فيستنبط من أحكام الشرع وفضائله معارف جليلة وإشارات دقيقة.
ومن معاني كلامه يستمدّ أبو الفرج بن الجوزي في الوعظ.
فمن ذلك ما قاله في الفنون: لقد عظم الله سبحانه الحيوان، لا سيما ابن آدم، حيث أباحه الشرك عند الإكراه، وخوف الضرر على نفسه، فقال: "إلاَّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان" النحل: 106.
من قدَّم حرمة نفسك على حرمته، حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه، لحقيق أن تعظم شعائره، وتقر أوامره، وزواجره.
وعصم عرضك بإيجاب الحدّ بقذفك، وعَصَم مالك بقطع مسلم في سرقته، وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك، وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس، وأباحك الميتة سدًّا لرمقك، وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجلٍ، ووعيد آجل، وَخَرق العوائد لأجلك، أنزل الكتب إليك. أيحسن بك- مع هذا الإكرام- أن تُرى على ما نهاك منهمكًا، وعما أمرك متنكبًا، وعن داعيه معرضًا، ولسنته هاجرًا، ولداعي عدوك فيه مطيعًا؟ يعظمك وهُوَ هُو، وتهمل أمره وأنت أنت. هو حط رتب عباده لأجلك، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجُدها لك.
هل عاديتَ خادمًا طالتْ خدمته لك لترك صلاة. هل نفيته من دارك للإخلال بفرض، أو لارتكاب نهي. فإن لم تعترف العبيد للموالي، فلا أقل من أن تقتضي نفسك للحق سبحانهُ، اقتضاء المساوي المكافي.
ما أوحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان بينا يكون بحضرة الحق، وملائكةُ السماء سجودٌ له، تترامى به الأحوال والجهالات بالمبدأ والمآل، إلى أن يوجد ساجدًا لصورة في حجر، أو لشجرة من الشجر، أو لشمسٍ أو لقمر، أو لصورة ثور خار، أو لطائر صفرة ما أوحش زوال النعم، وتغيّر الأحوال، والجَوْرَ بعد الكور!.
لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوان أن يُرى إلا عابدًا للّه في دار التكليف، أو مجاورًا لله في دار الجزاء والتشريف. وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير مواضعها.
وكان يقول: عندي أن من أكبر فضائل المجتهد: أن يتردد في الحكم عند تردد الحجة والشبهة فيه. وإذا وقف على أحد المترددين دلّه على أنه ما عرف الشبهة، ومن لا تعترضه شبهة لا تصفو لي حجة. وكل قلب لا يقرعه التردد، فإنما يظهر فيه التقليد والجمود على ما يقال له ويسمع من غيره.
فمن المسائل التي تفرَّد بها: أن النساء لا يجوز لهن استعمال الحرير في اللبس دون الافتراش والاستناد. ذكره في الفنون.
ومنها: أن صلاة الغد تصح في صلاة الجنازة خاصة. وهو معروف عنه.
ومنها: أن الربا لا يجري إلاّ في الأعيان الستة المنصوص عليها. ذكره في نظرياته.
¥