قال ابن السماك: (بينما صياد في الدهر الأول يصطاد السمك، إذ رمى بشبكته في البحر، فخرج فيها جمجمة إنسان، فجعل الصياد ينظر إليها ويبكي ويقول:
عزيز فلم تترك لعزك!!
غني فلم تترك لغناك!!
فقير فلم تترك لفقرك!!
جواد فلم تترك لجودك!!
شديد لم تترك لشدتك!!
عالم فلم تترك لعلمك!!).
يردد هذا الكلام ويبكي.
اذكروا هاذم اللذات
أخي الكريم:
حث النبي على ذكر الموت والإكثار منه، فقال عليه الصلاة والسلام: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} [الترمذي وحسنه].
قال الإمام القرطبي: "قال علماؤنا: قوله عليه السلام: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} كلام مختصر وجيز، وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من تمنيها في المستقبل، وزهده فيما كان منها يؤمل، ولكن النفوس الراكدة، والقلوب الغافلة، تحتاج إلى تطويل الوعاظ، وتزويق الألفاظ، وإلا ففي قوله عليه الصلاة والسلام: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} مع قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، ما يكفي السامع له، ويشغل الناظر فيه".
ولقد أحسن من قال: (اذكر الموت هاذم اللذات وتجهز لمصرع سوف يأتي).
وقال غيره: (اذكر الموت تجد راحةفي ادكار الموت تقصير الأمل).
أولئك الأكياس
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتيت النبي عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله! من أكيس الناس وأحزم الناس؟ قال: {أكثرهم ذكراً للموت، وأكثرهم استعداداً للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة} [الطبراني وحسنه المنذري].
فوائد ذكر الموت
أخي الحبيب: وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد منها:
1 - أنه يحث على الاستعداد للموت قبل نزوله.
2 - أن ذكر الموت يقصر الأمل في طول البقاء. وطول الأمل من أعظم أسباب الغفلة.
3 - أنه يزهد في الدنيا ويرضي بالقليل منها، فعن أنس بن مالك أن رسول الله مر بمجلس وهم يضحكون فقال: {أكثروا ذكر هاذم اللذات}، أحسبه قال: {فإنه ما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه، ولا في سعة إلا ضيقه عليه} [البزار وحسنه المنذري].
4 - أنه يرغّب في الآخرة ويدعو إلى الطاعة.
5 - أنه يهوّن على العبد مصائب الدنيا.
6 - أنه يمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا.
7 - أنه يحث على التوبة واستدراك ما فات.
8 - أنه يرقق القلوب ويدمع الأعين، ويجلب باعث الدين، ويطرد باعث الهوى.
9 - أنه يدعو إلى التواضع وترك الكبر والظلم.
10 - أنه يدعو إلى سل السخائم ومسامحة الإخوان وقبول أعذارهم.
أنفاس معدودة
عن ابن مسعود قال: خط النبي خطا مربعاً، وخط خطا في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: {هذا الإنسان، وهذا أجله محيط به - أوقد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا} [البخاري].
وقال القرطبي: (وأجمعت الأمة على أن الموت ليس له سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وذلك ليكون المرء على أهبة من ذلك، مستعداً لذلك).
وكان بعض الصالحين ينادي بليل على سور المدينة: الرحيل الرحيل. فلما توفي فقد صوته أمير المدينة، فسأل عنه فقيل: إنه قد مات فقال:
ما زال يلهج بالرحيل وذكره ... حتى أناخ ببابه الجمال
فأصابه مستيقظاً متشمراً ... ذا أهبة لم تلهه الآمال
وكان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: (ويحك يا يزيد! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى ربك عنك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس! ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ مَن الموت طالبه .. والقبر بيته .. والتراب فراشه .. والدود أنيسه .. وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر .. كي يكون حاله؟) ثم يبكي رحمه الله.
بينا الفتى مرح الخطا فرح بما ... يسعى له إذ قيل قد مرض الفتى
إذ قيل بات بليلة ما نامها ... إذ قيل أصبح مثخنا ما يرتجى
إذ قيل أصبح شاخصا وموجها ... ومعللا إذ قيل أصبح قد مضى
وقال التميمي: (شيئان قطعا عني لذة الدنيا: ذكر الموت، وذكر الموقف بين يدي الله تعالى).
وكان عمر بن عبدالعزيز يجمع العلماء فيتذكرون الموت والقيامة والآخرة، فيبكون حتى كأن بين أيديهم جنازةَ!!
¥