تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

5 - ومن الأسباب المقتضية للتعصب: أن يكون بعض سلف المشتغل بالعلم قد قال بقول، ومال إلى رأي؛ فيأتي هذا الذي جاء بعده؛ فيحمله حب القرابة على الذهاب إلى ذلك المذهب والقول بذلك القول، وإن كان يعلم أنه خطأ، وأقل الأحوال إذا لم يذهب إليه أن يقول فيه: إنه صحيح، ويتطلب له الحجج، ويبحث عما يقويه، وإن كان بمكان من الضعف، ومحل من السقوط، وليس له في ذلك حظ ولا معه فائدة إلا مجرد المباهاة لمن يعرفه، والتزين لأصحابه بأنه في العلم مُعْرِقٌ، وأن بيته قديم فيه.

ولهذا ترى كثيراً منهم يستكثر من: قال جدُّنا، قال والدُنا، اختار كذا، صنع كذا، فعل كذا.

وهذا لاشك أن الطباع البشرية تميل إليه، ولا سيما طبائع العرب؛ فإن الفخر بالأنساب، والتحدث بما كان للسلف من الأحساب يجدون فيه من اللذة ما لا يجدونه في تعدد مناقب أنفسهم، ويزداد هذا بزيادة شرف النفس، وكرم العنصر، ونبالة الآباء.

ولكن ليس من المحمود أن يبلغ بصاحبه إلى التعصب في الدين، وتأثير الباطل على الحق؛ فإن اللذة التي يطلبها، والشرف الذي يريده قد حصل له بكون [1] من سلفه ذلك العالم، ولا يضيره أن يترك التعصب له، ولا يمحق عليه شرفه.

بل التعصب - مع كونه مفسداً للحظ الأخروي - يفسد عليه أيضاً الحظ الدنيوي؛ فإنه إذا تعصَّب لسلفه بالباطل فلا بد أن يعرف كل من له فهم أنه متعصب، وفي ذلك عليه من هدم الرفعة التي يريدها، والمزية التي يطلبها ما هو أعظم عليه وأشد من الفائدة التي يطلبها، بكون [2] له قريب عالم؛ فإنه لا ينفعه صلاح غيره مع فساد نفسه.

وإذا لم يعتقد فيه السامع التعصب اعتقد بلادة الفهم، ونقصان الإدراك، وضعف التحصيل؛ لأن الميل إلى الأقوال الباطلة ليس من شأن أهل التحقيق الذين لهم كمال إدراك، وقوة فهم، وفضل دراية، وصحة رواية.

بل ذلك دأب من ليست له بصيرة نافذة، ولا معرفة نافعة.

فقد حصل عليه بما تلذذ به، وارتاح إليه من ذكر شرف السلف ما حقق عند سامعه بأنه من خلف الخلف. ص111 - 112.

6 - وبالجملة فالخاصة إذا بقي فيهم شيء من العصبية كان إرجاعهم إلى الإنصاف متيسر غير متعسر بإيراد الدليل الذي تقوم به الحجة لديهم؛ فإنهم إذا سمعوا الدليل عرفوا الحق، وإذا جادلوا وكابروا فليس ذلك عن صميم اعتقاد، ولا عن خلوص نية.

فرياضة الخاصة بإيراد الأدلة عليهم، وإقامة حجج الله، وإيضاح براهينه.

وذلك يكفي؛ فإنهم لمِاَ قد عرفوه من علوم الاجتهاد، ومارسوه من الدقائق، لا يخفى عليهم الصواب، ولا يلتبس عليهم الراجح بالمرجوح، والصحيح بالسقيم، والقوي بالضعيف، والخالص بالمغشوش. ص118 - 119.

7 - ورياضة العامة بإرشادهم إلى التعلم، ثم بذل النفس لتعليمهم ما هو الحق في اعتقاد ذلك المعلم بعد أن صار داعياً من دعاة الحق، ومرشداً من مرشدي المسلمين، ثم ترغيبهم بما وعد الله به، وإخبارهم بما يستحقه، من فعل كفعلهم من الجزاء والأجر، ثم يجعل لهم من القدوة بأفعاله مثل ما يجعله لهم من القدوة بأقواله أو زيادة؛ فإن النفوس إلى الاقتداء بالفعَّال أسرع منها إلى الاقتداء بالقوَّال. ص119

8 - والعقبة الكؤود، والطريق المستوعرة، والخطب الجليل، والعبء الثقيل-إرشادُ طبقة متوسطة بين طبقة العامة والخاصة، وهم قوم قلدوا الرجال، وتلقنوا علم الرأي ومارسوه، حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة وتميزوا عنهم.

وهم لم يتميزوا في الحقيقة عنهم، ولا فارقوهم إلا بكون جهل العامة بسيطاً وجهل هؤلاء جهلاً مركباً، وأشد هؤلاء تغييراً لفطرته، وتكديراً لخلقته أكثرهم ممارسة لعلم الرأي، وأثبتهم تمسكاً بالتقليد، وأعظمهم حرصاً عيه؛ فإن الدواء قد ينجح في أحد هؤلاء في أوائل أمره، وأما بعد طول العكوف على ذلك، والشغف به والتحفظ له، فما أبعد التأثير وما أصعب القبول؛ لأن طبائعهم مازالت تزداد كثافة بازدياد تحصيل ذلك، وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذلك، وبمقدار ولوعهم بما هم فيه، وشغفهم به تكون عداوتهم للحق، ولعلم الأدلة، وللقائمين بالحجة.

ولقد شاهدنا من هذه الطبقة ما لو سردنا بعضه لاستعظمه سامعه، واستفظعه؛ فإن غالبهم لا يتصور بعد تمرنه فيما هو فيه إلا مَنْصِباً يثب عليه، أو يتيماً يشاركه في ماله، أو أرملة يخادعها عن ملكها، أو فرصةً ينتهزها عند ملك أو قاض، فيبلغ بها إلى شيء من حطام الدنيا، ولايبقى في طبائع هؤلاء شيء من نور العلم، وهدى أهله وأخلاقهم، بل هم أشبه شيء بالجبابرة، وأهل المباشرة للمظالم، ومع هذا فهم أشد خلق الله تعصباً وتعنتاً وبُعداً من الحق، ورجوعهم إلى الحق من أبعد الأمور وأصعبها؛ لأنه لم يبق في أفهامهم فضلة لتعقّل ذلك وتدبّره، بل قد صار بعضها مستغرقاً بالرأي، وبعضها مستغرقاً بالدنيا.

فإن قلتَ: فهل بقي مطمع في أهل هذه الطبقة؟ وكيف الوصول إلى إرشادهم إلى الإنصاف وإخراجهم عن التعصب؟

قلتُ: لا مطمع إلا بتوفيق الله وهدايته؛ فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه، وسهّل طرائقه، وأحسن ما يستعمله العالم مع هؤلاء ترغيبهم في العلم، وتعظيم أمره، والإكثار من مدح علوم الاجتهاد، وأن بها يعرف أهل العلم الحق من الباطل، ويميّزون الصواب من الخطأ، وأن مجرد التقليد ليس من العلم الذي ينبغي عد صاحبه من جملة أهل العلم. ص119 - 120

9 - ومن آفات التعصب الماحقة لبركة العلم أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة كما يصدر ممن يفتي، أو يصنف، أو يناظر غيره، ويشتهر ذلك القول عنه، فإنه قد يصعب عليه الرجوع عنه إلى ما يخالفه، وإن علم أنه الحق، وتبين له فساد ما قاله. ص141

10 - ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق أن يكون المتكلم بالحق حدث السن بالنسبة إلى من يناظره، أو قليل العلم أو الشهرة في الناس، والآخر بعكس ذلك؛ فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل؛ أنفةً منه عن الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سناً، أو أقل منه علماً، أو أخفى شهرةً؛ ظناً منه أن في ذلك عليه ما يحط منه، وينقص ما هو فيه.

وهذا الظن فاسد؛ فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل، والعلوّ والشرف في الرجوع إلى الحق بيد من كان وعلى أي وجه حصل. ص142 - 144.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير