قال ابن القيم - رحمه الله -: (وإنما خضعت – يعني: (الأعضاء) للسان؛ لأنه بريد القلب وتَرجمانه والواسطة بينه وبين الأعضاء. وقولها: «إنما نحن بك» أي نجاتنا بك وهلاكنا بك، ولهذا قالت: «فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا») [7].
لسانُ الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
فلم يبقَ إلا صورةُ اللحم والدمِ [8]
فمن استقام لسانه، استقامت جوارحه وحصدت له الخيرات وملك أمره، وهذا ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لمَّا سأله معاذ عن عمل يُدخله الجنة ويباعده عن النار، فذكر له - صلى الله عليه وسلم - جملة من أعمال الخير، ثم أخبره برأس الأمر وهو الإسلام، وعموده وهو الصلاة، وذروة سنامه وهو الجهاد، ثم بين له - صلى الله عليه وسلم - ما يحفظ عليه أعمال الخير التي ذكرها له ويوفقه إلى ما لم يذكره من الأعمال الأخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ! فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» [9].
قال ابن رجب - رحمه الله -: «هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كُلِّه، وأنَّ من ملك لسانه، فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه» [10].
وهذا المعنى واضح وجلي في كثير من الأحاديث ومنها: حديث سُفْيَانَ بن عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ: رَبِّيَ اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقِمْ».
قُلْتُ: مَا أَكْثَرُ.
وفي رواية: مَا أَشَدُّ.
وفي رواية: مَا أَخْوفُ.
وفي رواية: مَا أَكْبَرُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟
وفي رواية: «فَأَيَّ شَيْءٍ أَتَّقِي؟ «فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ صقَالَ: هَذَا» [11].
وسأل الحارث بن هشام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «املك هَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ –» [12].
فدل هذان الحديثان على أن قِوام الاستقامة المأمور بها هو: حفظ اللسان عن الباطل: من القول على الله بغير علم، والغيبة، والكذب ... وغير ذلك من آفات اللسان وموبقاته، ودلَّا على أن ترك اللسان دون مراقبة قادح من أعظم قوادح الاستقامة.
قال المناوي: («املك عليك» يا من سألت منا النجاة «لسانك» بأن لا تحركه في معصية، بل ولا في فيما لا يعنيك؛ فإن أعظم ما تطلب استقامته بهذا القلب اللسان؛ فإنه الترجمان. وقد سبق أن اللسان فاكهة الإنسان وإذا تعوَّد اللسان صعب عليه الصبر عنها فبعُد عليه النجاة منها؛ ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار ويتورع عن استناده إلى وسادة حرير أو قعوده عليه في نحو وليمة لحظة واحدة ولسانه يفري في الأعراض غيبة ونميمة وتنقيصاً وإزراءً ويرمي الأفاضل بالجهل ويتفكه بأعراضهم ويقول عليهم ما لا يعلم) [13].
وإذا كان أكثر خطايا بني آدم إنما هي في اللسان، فواجب على المؤمن الذي يخاف على نفسه أن يتقي لسانه ويتعرف على سبيل استقامته وعلى آفاته حتى ينجو منها؛ فإنَّ كثرة الخطايا من ضعف الإيمان ورقة الدين، وهذا كله قدح في الاستقامة وتنكُّبٌ عن الصراط المستقيم.
عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ - رَضِي الله عَنْهُ - أَنَّهُ لَبَّى عَلَى الصَّفَا، ثُمَّ قَالَ: يَا لِسَانُ! قُلْ خَيْراً تَغْنَمْ، وَاصْمُتْ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَمَ. قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! هَذَا شَيْءٌ تَقُولُهُ أَوْ سَمِعْتَهُ؟ قَالَ: لا، بَلْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: «إِنَّ أَكْبَرَ – وفي رواية: أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ فِي لِسَانِهِ» [14].
¥