تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وفي فعل الصحابي الجليل ابن مسعود - رضي الله عنه - هذا بلسانه واستشعاره خطورته وأثره عليه حافز لنا وإيقاظ لضمائرنا، وتربية على عدم الاغترار بالنفس؛ فابن مسعود - رضي الله عنه - يخاف من لسانه ويذكِّر نفسه في أشرف المواطن في بيت الله الحرام، وهو مَنْ هو؛ في الفضل والمنزلة بشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبشهادة الصحابة الكرام، وهو الذي لسانه رطب بذكر الله، غضٌّ طري بالقرآن، وفضائله كثيرة.

ولا شك كذلك أن حفظ اللسان والتوقي من شره من أسباب دخول الجنة؛ فعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ! ثِنْتَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تُخْبِرْنَا مَا هُمَا [15] ثُمَّ قَالَ: «اثْنَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» حَتَّى إِذَا كَانَتْ الثَّالِثَةُ أَجْلَسَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: تَرَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ يُبَشِّرُنَا فَتَمْنَعُهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ، فَقَالَ: «ثِنْتَانِ مَنْ وَقَاهُ اللَّهُ شَرَّهُمَا دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ» [16].

قال الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله -: (وفي هذا الحديث دليل على أن أكبر الكبائر إنما هي من الفم والفرج، وما بين اللَّحْيَيْنِ: الْفَمُ، وما بين الرجلين: الفرج.

ومن الفم مَا يَتَوَلَّدُ من اللسان، وهو كلمة الكفر، وقذف المحصنات، وأخْذُ أعراض المسلمين، ومن الفم أيضاً: شُرْب الخمر، وأَكْل الربا، وأَكْل مال اليتيم ظلماً.

ومن الفرج: الزنا، واللواط.

ومن اتقى ما يأتي من اللسان والفرج، فأحرى أن يتقي القتل، والله أعلم) [17].

بل أيضاً: من تعظيم شأن استقامة اللسان: أن مَنْ ضَمِن لسانه فله ضمانة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بدخول الجنة، مما يؤكد على أثر اللسان على سائر الجوارح وعلى حياة الإنسان الخالدة في دار النعيم، وهذا ما ثبت من حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الْجَنَّةَ» [18].

ولا شك أن هذه الضمانة عظيمة ومعلقة على أمر عظيم، وهو القيام بحق اللسان في السكوت والكلام. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (قَوْله «مَنْ يَضْمَن» الْمَعْنَى: مَنْ أَدَّى الْحَقَّ الَّذِي عَلَى لِسَانه مِنْ النُّطْق بِمَا يَجِب عَلَيْهِ أَوْ الصَّمْت عَمَّا لَا يَعْنِيه وَأَدَّى الْحَقّ الَّذِي عَلَى فَرْجه مِن وَضْعه فِي الْحَلَال وَكَفّه عَنْ الْحَرَام ... وَمَحْمَل الْحَدِيث: عَلَى أَنَّ النُّطْق بِاللِّسَانِ أَصْل فِي حُصُول كُلِّ مَطْلُوب؛ فَإِذَا لَمْ يَنْطِق بِهِ إِلَّا فِي خَيْر سَلِمَ. وَقَالَ اِبْن بَطَّال: دَلَّ الْحَدِيث عَلَى أَنَّ أَعْظَم الْبَلَاء عَلَى الْمَرْء فِي الدُّنْيَا لِسَانه وَفَرْجه؛ فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهمَا وُقِيَ أَعْظَم الشَّرّ) [19].

ولا نجاة للعبد من عذاب الله إلا باستقامته على الهدى الذي جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا استقامة للعبد إلا بحفظ لسانه، ولكي تعلم أثر اللسان في هذه النجاة ودوره فيها؛ فانظر: على أي شيء علَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاة لَمَّا سئل عنها، تجد أول شيء: حفظ اللسان، وإمساكه عما لا يعني؛ فعن عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ» [20].

وفي رواية ابن أبي عاصم للحديث: «امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ» [21] ولم يذكر غير ذلك.

قال المناوي: (وهذا الجواب من أسلوب الحكيم؛ سأل عن حقيقة النجاة فأجابه عن سببه؛ لأنه أهم بحاله وأَوْلى، وكان حق الظاهر أن يقول: حفظ اللسان؛ فأخرجه على سبيل الأمر المقتضي للوجوب مزيداً للتقرير والاهتمام) [22].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير