لا تذكر العلماء بشيء فيميت الله تعالى قلبك».
والأصل أنه لا يطعن في علماء الشريعة، ولا يرضى بالطعن فيهم إلا أهل الأهواء والنفاق؛ لأن العلماء يحولون بينهم وبين نشر النفاق والفساد والابتداع في الدين؛ إذ ببيان العلماء يظهر العلم، ويرفع الجهل، وتزال الشبهة، وتصان الشريعة، ويكون الناس على طريق مستقيمة، ومحجة واضحة، لا غموض فيها ولا التباس؛ ولذا كان أئمة من السلف الصالح إذا رأوا من يطعن في عالم رباني اتهموه في دينه، وجعلوا ذلك قاعدة عند الناس حتى لا يغتروا بطعنه، قال يحيى بن معين رحمه الله تعالى: «إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة وعكرمة مولى ابن عباس فاتهمه على الإسلام». وجاء مثل ذلك عن عدد من علماء السلف رحمهم الله تعالى.
بل إن مجرد الاستخفاف بعالم الشريعة ولو لم يطعن فيه سبب للضلال والإضلال؛ لأن من استخف بالعلماء لم يأخذ عنهم، واتبع هواه في دينه فَضَلَّ وأَضَلَّ من تبعه، وفي هذا يقول ابن المبارك رحمه الله تعالى: «من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ومن استخف بالأمراء ذهبت دنياه ومن استخف بالإخوة ذهبت مروءته».
ومن فرح بمصاب العلماء أو موتهم، أو أراد من الناس العزوف عنهم، أو دعا إلى عدم اعتبار أقوالهم، أو رغب في الإقلال من دروسهم ومحاضراتهم، أو طالب بتقليص المناهج الشرعية في مراحل التعليم؛ فإنما يبتغي بذلك تجهيل الناس بدينهم، وإبطال شريعة الله تعالى فيهم، وإطفاء نوره الذي استضاءوا به، ونقلهم من الهدى والنور إلى الضلال والظلام، سواء قصد ذلك أم لم يقصده، قال أيوب السختياني رحمه الله تعالى: «إن الذين يتمنون موت أهل السنة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون».
إن من أعظم أسباب الاتباع والهدى، ومجانبة البدع والهوى، والنجاة من سبل أهل الردى: محبة علماء الشريعة الربانيين، ومعرفة قدرهم، وحفظ مكانتهم، والذب عن أعراضهم، والانتصار لهم ممن بغى عليهم، حتى إن السلف الصالح جعلوا محبة العالم الرباني دليل الهدى والاتباع، والسلامة من الهوى والانحراف، وفي هذا يقول أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى: «إذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة».
ويحس الواحد منهم إذا مات عالم أنه قد أصيب هو في جسده؛ كما قال أيوب السختياني رحمه الله تعالى «إني أُخبَر بموت الرجل من أهل السنة وكأني أفقد بعض أعضائي».
وربما تمنى بعضهم أن يتنازل عن شيء من عمره ليزيد في عمر عالم من أجل نشر دين الله تعالى ونفع الناس بالعلم؛ كما قال يحيى البيكندي رحمه الله تعالى: «لو قدرت أن أزيد في عمر البخاري من عمري لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموتَه ذهابُ العلم».
ومن شدة محبة أهل الإيمان للعلماء أنهم يخصونهم بالدعاء لهم؛ اعترافاً بفضلهم، ومكافئة لهم على معروفهم بنشر العلم، ورفع الجهل قال الحسن بن أحمد بن الليث: «سمعت أحمد بن حنبل وسأله رجل فقال: بالريِّ شابٌ يقال له أبو زرعة فغضب أحمد وقال: تقول شاب!! كالمنكر عليه، ثم رفع يديه وجعل يدعو الله عز وجل لأبي زرعة ويقول: اللهم انصره على من بغى عليه، اللهم عافه، اللهم ادفع عنه البلاء اللهم اللهم في دعاء كثير، قال الحسن: فلما قدمت حكيت ذلك لأبي زرعة وحملت إليه دعاء أحمد بن حنبل له، وكنت كتبته عنه، فكتبه أبو زرعة، وقال لي أبو زرعة: ما وقعت في بلية فذكرت دعاء أحمد إلا ظننت أن الله تعالى يفرج بدعائه عني».
وكان حماد بن أبي سليمان شيخاً لأبي حنيفة رحمهما الله تعالى فعرف له أبو حنيفة فضله، وحفظ مكانته حتى قال: «ما صليت صلاة منذ مات حماد إلا استغفرت له مع والدي وإني لاستغفر لمن تعلمت منه علماً أو علمته علماً».
تلك كانت منزلة العلماء عند أسلافنا، وواجب علينا أن نقتدي بهم في توقير العلم والعلماء؛ فإن ذلك من إجلال الله تعالى، وتعظيم شريعته، وامتثال أمره، وقد روي في الحديث: «إِنَّ من إِجْلَالِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فيه وَالْجَافِي عنه وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ» رواه أبو داود، قال الشعبي رحمه الله تعالى: «أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابتٍ وقال: هكذا يُفعل بالعلماء»
¥