.. وإن كان الأمران لا يتباعدان " فدراسة الفروق في ذلك بين كلام أهل زماننا وكلام الأوائل ـ على سبيل المثال ـ لايمكن تحصيلها من النظر في ثوابت الكلام مثل أصول تصريف الكلمات والجمع والتصغير والنسب ونحوها , أو من المعجم اللفظي , ولكنّ صناعة الكلام والمتكلم إنما تتحقق في أخص صفاتها وسماتها في الإسناد الذي به يصير المتكلم متكلما؛ إذ لا يصنع المتكلمُ " الإسنادَ إلا بما في نفسه من معانٍ وصور وأخيلة وتراكيب ". (مراجعات في أصول الدرس البلاغي ص 20).
وقد نثر أستاذنا لهذا المنحى " إشاراتٍ شديدة الإيجاز لمايتجه إليه النظر في دراسة الفنون البلاغية , سواء كانت في كلام العلماء الذين استنبطوا , أو في كلام الشعراء والكتاب الذين أسسوا هذا البيان " و بَيَّنَ " أنّ هذا التطور ليس مرتبطًا بتطور الحياة العقلية فحسب , وإنما هو جزء منها وثمرة من ثمارها , وليس له مجال يؤخذ منه إلا هذا التغيير الذي يداخل الحياة العقلية , وأن مزاولة هذا المبحث أو ذاك تفتح أبواباً ومسالك للوصول إلى دقائقه , وأن ذلك لن يستقيم إلا بمزيد من الجهد والصبر والانقطاع , وأنه شاقٌ وأنه مكابدة , وليس في الدنيا شيء له قيمة إلا وهو مؤسس على المكابدة والصبر وطول الانقطاع , وأن الجيل الذي يقوم بذلك لابد أن ينزعَ نفسَه من خدمة علوم عدوّه الألدّ , وتطويع العربية لها , أو تطويعها للعربية , وأن يغرسَ نفسه كلَّها ووقته كلَّه وجهده كلَّه في هذا اللسان , وشعرَه وأدبَه , وما استنبطه علماؤه الذين انقطعوا له , وأن يبذل مثل ما بذل هؤلاء , وسيتضح هذا حين يكون منا من يبذل ما بذل عبد القاهر , والزمخشري وأبو الفتح وغيرهم , أمّا قراءة الملخصات من الثقافات المختلفة , وخلط هذا بذاك , كبائع الأعشاب المقوية؛ فهذا من اللغو والعبث والشعبذة ".
الإخلاص و الاتصال:
و واضح في كلام شيخنا ما أخذ به نفسه وحث عليه طلابه من أهمية الإخلاص في طلب العلم والانقطاع له وعمقِ الاتصال بتراث أمةٍ أنتجته عقولٌ صبرت وصابرت وكابدت وثابرت , في سبيل بناء المعرفة ونموها , وأن الحداثة الحقّة لا تكون إلا بالاندماج في هذا البناء المعرفي فهما ً وتحليلاً وتمثّلاً و وعيا ً قادراً على أن يضيف إليه شيئاً جديداً لا يتسق معه فحسب؛ بل يتّحد على نحو ما تتحد الأعضاء في الجسد الواحد , إن هذه الوحدة العضوية في بناء المعرفة وصناعتها , تجعل المعرفة كائناً حياً ناميأً نمواً داخلياً لا يلغي تأثره بالعوامل الخارجية واسترفاده لها , ولكنه يرفض كل نشاز في شكله ومضمونه.
تشاجر العلوم:
ومن أهم ملامح منهج شيخنا ـ وهو ذو علاقة قوية بما سبق ـ تأكيده على ما يمكن أن نسميه " تشاجر العلوم "؛وأخذ بعضها عن بعض , وهي فكرة أدركها سلفنا؛ فطبقوها عمليًا حين وجدنا العالم منهم يكاد يكون متخصصاً في أكثر من علم , وإن غلب عليه التفرد في علم أو أكثر من تلك العلوم , وقد كان لهذه الرؤية الشاملة في تلقّي العلم ومدارسته أثرٌ واضح في إثراء تجاربهم العلمية , وغنى مؤلفاتهم , وسعة أفقهم , ورسوخ قدمهم في مسالك الأفكار ودقة نظرهم في ما تقصد إليه الأبصار.
ومن هذا الباب كان احتفاء شيخنا بضرورة النظر الشامل إلى التراث العربي الإسلامي, في علومه المختلفة , نظرًاً يتتبع الصلات والوشائج التي تقِفُك على تشاجر العلوم وكونها تسقى بماء واحد؛ وتلتقي وتتحد في منهج واحد وإنْ بَدَتْ في الظاهر علومًا متعددة؛ فاستنباط عبد القاهر في البلاغة من كلام من تقدموه مثل سيبويه وغيره , إذا ما استطعت أن تتغلغل في كيفية عمل عقله فيه وطريقة تهديه إلى ما استخرجه من علم جديد ـ في ضوء منهج الاستنباط في التراث الفقهي ـ فقد هديت إلى منهج متكامل ٍ " من الدرس والفهم والتدقيق والتمحيص , وقد كان هذا المنهج بتكاليفه الصعبة ظاهرًا ظهورًا بيّنًا في كلام عبد القاهر ". (مدخل إلى كتابي عبد القاهر الجرجاني ص3,4).
وشيخنا كَلِفٌ جدًا بفكرة صناعة المعرفة و امتدادها؛ لتشمل كافة العلوم والمعارف والفنون العربية؛ فهو واثق أنّ " أمثال سيبويه والخليل وأبي عليّ والسيرافيّ ومن في طبقتهم من الفقهاء ينطوي علمهم على بابٍ جليلٍ وهو بيان كيف كانوا يستخرجون علومهم ".
الدين والأدب:
¥