تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

انتقل أبو الطيب من النسيب إلى الوعظ وهذا ما عابه عليه الواحديفي شرحهمحتجا بأن العرب تخصُّ الحكمة بالمراثي والمواعظ، أما في التبيان فقد أنصف العكبري أبا الطيب وذكر بأن هذا الانتقال حذق وذكاء، وقوله هو الصواب،فالشاعر يقول ما تمليه عليه نفسه، وقد أسهبت ذات المتنبي في غفلة الشعور وبثت شكواها ولوعتها المخبوءة - وهذا ما يسمى في علم النفس " التداعي الحر "- مهما يكن من أمر يجب ألا نغفل عن الدلالات النفسية لهذه الأبيات، فهي تظهر تشاؤما ويأسا وأذًى لحق بنفس المتنبي منذ طفولته،من نشأة بضنك العيش في كنف والده السقا إلى تنقل وترحال في البوادي والبلاد إلى ما قيل عن سجن في صباه لادعائه النبوة، كما تظهر اغتراب المتنبي عن محيطه وواقعه وقد صرح بذلك في عدة أبيات في غيرما قصيدة، هذا كله شحن نفس أبي الطيب ففرغَّه شعرا.

وفي هذا الموضع لا بدّ من العودة إلى سن أبي الطيب

يقال إن الحكمة ثمرة السنين وتقلب الأحوال، فمن أين لصبيٍّ حديث العهد بالدنيا أبياتٌ تعدُّ من عيون الشعر في الحكمة:

أَ بَني أَبينا نَحنُ أهلُ مَنازِلٍ .... أبدا غُرابُ البينِ فيها يَنعَقُ

نَبكي على الدنيا وما من مَعشَرٍ ... جَمَعَتهُمُ الدنيا فَلَم يَتَفَرَّقوا

فالموتُ آتٍ والنفوسُ نفائسٌ ...... والمُستَعِزُّ بِما لَديهِ الأحمَقُ

إذا هي التجربة على قصرها احتضنتها عبقرية شاعر، فالنفس التوّاقة لأعلى المراتب حطمتها الأرزاء حتى كاد شبابه ينقضي ولمّا يبقَ من طموحه ما يُذكر، فحقَّ للصبي النواح والتحسر على شبابه المُحتَضَر:

وَلَقَد بَكَيتُ عَلى الشَّبابِ وَلمَّتي ... مُسوَّدة وَلِماءِ وَجهيْ رَونَق ُ

حَذَرا عَليه قَبلَ يَومِ فِراقِهِ ..... حَتَّى لَكِدتُ بِماءِ جَفْني أَشْرَق ُ

أما مديح أبي الطيب فكان رافعة طارت بمدوحيه إلى الفضاء وأسكنتهم كبد السماء شموسا وكواكبا، ولم يكتفِ بذلك بل قصر عليهم طيب الثناء وحسن الصفات، وهذا غاية ما يطلبه ممدوح من مادحيه:

أَمَّا بنو أوسِ بنِ معنِ بنِ الرضا ..... فأعزُّ من تُحدى إليهِ الأينقُ

كَبَّرتُ حَولَ ديارهِم لمّا بَدَت ... مِنها الشُّموسُ وَليسَ فيها المَشرِقُ

وتفوحُ من طيبِ الثناءِ روائحٌ ...... لهم بكلِّ مَكانَةٍ تُستَنشَقُ

مِسكيةُ النَّفَحاتِ إلا أنَّها ........ وَحشيَّةٌ بِسِواهم لا تعبقُ

2. الابتكار والتجديد في المعاني:

حقق المتنبي فتحا مبينا في الشعر ومعانيه وادرك من المعاني الجديدة ما لم يدركه شاعر قط وحاز قصب السبق في كثير من أشعاره حتى قال الواحدي في مقدمة شرحه:

" على أنه كان صاحب معان مخترعة بديعة ولطائف إبكار منها لم يسبق إليها دقيقة "

حتى المعاني القديمة التي يطرقها أبو الطيب كان يكسوها من اللفظ وحسن القريض حلة قشيبة تبرزها على أنها جديدة مبتدعة ولعل تجديد أبي الطيب وابتكاره سببا في تقديمه على سائر الشعراء.

وهنا قد يقول قائل: كان الطائي أسبق إلى التجديد والابتكار وهذا صحيح ولكن َّ أبا تمام غالى كثيرا وأوغل في الإبهام والمعاني البعيدة عدا عن عنايته الزائدة بزخارف اللفظ والبديع مما يصرف الذهن عن المعنى.

والنص الذي بين أيدينا لا يخلو من لطائف ابتكارات أبي الطيب وسبقه إلى الجديد الذي لم يطرق، فهو يعجب من موت الخلي الذي لا يعشق على اعتبار أن ما يقاسيه العشاق من أهوال العشق سبب في الهلاك، هو العشق الذي اشتعل في حشاه ولمّا ينطفئ كما انطفأت جذوة جمر الغضا المعروف بطول اتقاد:

جَرَّبتُ من نارِ الهوى ما تنطفي ...... نارُ الغضى وتكلُّ عمّا تُحرِق ُ

وعذلتُ أهلَ العشقِ حتى ذُقتُهُ ....... فَعَجِبتُ كيفَ يَموتُ منْ لا يعشقُ

وحتى في المديح كان لأبي الطيب سبق وابتكار فالشموس بدت له من ناحية المغرب لأن سكنى الممدوح في الغرب وهذا مدعاة للعجب والتكبير:

كَبَّرتُ حَولَ دِيارِهِم لَمّا بَدَت ...... مِنها الشُموسُ وَلَيسَ فيها المَشرِقُ

3. جودة السبك وبلاغة التعبير:

المتنبي من الشعراء الذين طوّعوا اللغة فانصاعت له واستحالت بين يديه عجينة يشكلها كيف شاء، فكان بحق كما قال:

أنام ملء عيوني عن شواردها .... ويسهر الخلق جراها ويختصم

وهذه ميزة اكتسبها في طفولته أثناء تنقله في البادية وامتزاجه بالأعراب ومن عمله في دكاكين الوراقين حتى أصبح فصيح اللسان بليغ القول عالما بغريب اللغة وحوشيها.

على أن المتنبي حاز من ضروب البلاغة والبيان ما حاز وما يظهر جليا في الأبيات، فالنص بمجمله مادة غنية للدرس البلاغي احتوت ما احتوته من أصناف البيان كافة: تشبيه واستعارة وكناية

وهنا أقف عند الكناية اللطيف لما لها من وقع خاص في النفس يقدمها على غيرها من ضروب البيان

في الأبيات لك ان تحصي جملة من الكنايات البديعة والقريبة المأخذ مما لا يخفي على الأديب اللبيب:

أبني أبينا نَحنُ أَهلُ مَنازِلٍ**** أبدا غراب البين فيها ينعق

وَلَقَد بَكَيتُ عَلى الشَبابِ وَلِمَّتي ** مُسوَدَّةٌ وَلِماءِ وَجهِيَ رَونَقُ

حَذَرًا عَلَيهِ قَبلَ يَومِ فِراقِهِ**** حَتّى لَكِدتُ بِماءِ جَفنِيَ أَشرَقُ

وَعَجِبتُ مِن أَرضٍ سَحابُ أَكُفِّهِمْ** مِن فَوقِها وَصُخورُها لا تورِقُ

وَتَفوحُ مِن طيبِ الثَناءِ رَوائِحٌ**** لَهُمُ بِكُلِّ مَكانَةٍ تُستَنشَقُ

إذا هي أبيات صاغتها عبقرية شاعر فذ أقطع كلماته من روحه ونفسه، فخرجت صادقة تحكي ألمه ولوعته، كما لا نغفل عن قوة المعنى وبلاغة القول التي ضمنت هذه الأبيات.

والله تعالى أعلى وأعلم

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير