تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[الرومانسية وتراثنا الشعري]

ـ[هدى عبد العزيز]ــــــــ[16 - 12 - 2010, 09:21 م]ـ

ـ الرومانسية وتراثنا الشعري

يقول كولردج ((ليست الصور وحدها مهما بلغ جمالها كانت مطابقتها للواقع, ومهما عبر عنها الشاعر بدقة, هي الشيء الوحيد الذي يُميز الشاعر الصادق, وإنما تُصبحُ الصورُ معيارا للعبقرية الأصلية حين تُشكِلُها عاطفة سائدة أو مجموعة من الأفكار والصور المترابطة أثارتها عاطفة سائدة, وحينما تتحول فيها الكثرة إلى الوحدة والتتالي إلى لحظة واحدة , وحينما يُضفي عليها الشاعر من روحه حياة إنسانية وفكرية)) 1

الشاعر العربي القديم كان مُجددا في شعرهِ, يرى في ديوانِه جوانبَ منْ حُريتِه, ليؤلفَ منْ شعورهِ أشعارهِ, ويترجمَ منْ زفراتِ أناتِهِ أنغاما مُوسيقية, ويرسمَ منْ غضبهِ صورا مُبتكَرة, ويَخُطُ منْ اضطهادِهِ حروفا تصرخُ بأوجاعِه, وهو يقومُ بكل هذا من غيرِ أنْ يُطلبَ منهُ, سِوى أنّ أصالتَه أوحتْ لهُ بهذا على شرفِ مَلَكَة موهبته الشعرية.

إننا نرى على سبيل المثال لا الحصر أن التغنيَ بانفلاتِ الزمن وُجِدَ عند الشاعر العربي.

انظر إلي المتنبي وهو يقول:

فؤادٌ مَا تُسَّلِيهِ المُدَامُ * وَعُمْرٌ مِثلُ مَا تَهِبُ الّلئَامُ 2

أيُ فؤادٍ هذا الذي لا تُسليه المُدام .. بكل ما تفعله من فك للكوابح, وأيُ عُمرٍ ذلك الذي يشبهُ هِبة الِلئَام, وهلْ تَهِب اللئام شيئا؟

إنهُ شاعرٌ أصيل عبّر عن خلجاتِ روحِهِ, وتركَ العنانَ لمشاعرهِ فسكبتْ مِدادا يَضجُ بالصدقِ, يتسربُ إلى أرواحِنا ليطبعَ فيها احترام وحُب هذا الشاعِر, بل ونحيا مَعاهُ تجربَتهُ ,ونتفهمُ أسرارَ غضبِهِ حينَ يثورُ, ونزغردُ في أعراسِ أفراحِهِ حين يبتهج , ونشاركُهُ آلامَهُ ونحسُ بغربتِهِ, فنتوحد معه في كل ما يقولُ ويصدرُ عنه, حتى فِي خيالِه نُسافِرُ معهُ لأفقٍ قدْ اختارهُ لنا دربًا ومسلكًا, ومع ذلك نرتقي معهُ في حُلمِه طائعين بل يُسابقُ بعضُنا بعضَا ,فمَنْ سيظفرُ بالحُلمِ ويعيشُ جمالَه منا قبلَ الآخر؟

ثم يُعلنُ نداءُ الفجرِ الجديدِ نهايةَ ليلةٍ معَ قراءةِ قصيدة. هي تجربةٌ حيةٌ قدْ خُضناها معهُ, وإنْ لمْ نخُضها في حياتِنَا. فنطردُ مشاعرَ سلبيةً منْ نفوسِنَا, ونخلصُ إلى هدوءِ البالِ, لأنهُ عبّرَ بكلِ تفوقٍ وألمعيةٍ عنْ تجربةٍ قدْ تأثرنا بها يوماً ما, ولكن مَلَكة التعبير لمْ تكُن هِبَة لنا, فظلتْ في نفوسنا تتألمُ ,حتى أتى هذا الشاعر الفذ الذي وهبه الله ملكة التعبير الإبداعي, فأخرج أناتنا, وصرخَ بأوجاعِنا, ورسمَ أحلامَنا, وسكبَ على مرأى نواظِرِنا تلاطمَ مشاعِرِنا بشاعريتِهِ وبعبقريَتِه. ِ

ونشتاقُ لِلعَوْد مع قصيدةٍ جديدةٍ في ليلٍ شاعريٍ يُنادينا لهُ الشاعر, الذي كشفَ لنا فلسفةً من فلسفاتِ الحَياة, بروحِهِ الحَساسةِ الذّكيَةِ المُحَلِقة, والتي أتتْ بالرومانسية فِي شكلٍ مِنْ أشْكَالِهَا قبلِ قِيَامِهَا. وهُنا تكونُ عبقرية الفنان وتميز الأدب العربي حينما نُمْعَن فيه بعمق. فهو ثري بثراء اللُغة التِي هي أداة تعبيره.

هذا ابن الرُومِي ذلكَ المُتطير المتوتر يقول:

ولقد مُنِعْتُ مِنَ المَرافقِ كُلِّها حَتى مُنعتُ مَرافِقَ الأحَْلامِ

مِن ذَاكَ أنِي مَا أرَانِيَ طاعِما فِيْ النّومِ أوْ مُتعرِّضا لطعَامِ

إلا رأيت منْ الشقاءِ كَأنني أُثنِى وَاكْبح دُونَهُ بِلجَامِ 3

قدْ حُرمَ مِنْ كلِ شيء ... حتى فِي الأحلامِ ... كُلما حَاولَ أنْ يأكلَ يكبحُ غصباً وكأنهُ ملجوم ومسلوب الإرادة.4

ويقول أيضا:

لِمَا تُؤذن الدُنيا بهِ مِنْ صُروفِهَا يَكونُ بُكَاءُ الطفلِ ساعةَ يُوْلَدُ

وَإلاَ فَمَا يُبْكِيهِ مِنهَا وَإنهَا لأْفْسِحُ مِمَا كَانَ فِيهِ وَأرْغَدُ 5

ينقلُ ابن الرومي هُنا الضيقَ وثقلَ الدُنيا إلى المُستوى الوُجودِي ... لماذا يَبكِي الطفلُ ساعةً الميلادِ وهوَ المُنتقل منَ الضيقِ إلى الرحب؟

أيُ عاطفةٍ تستدعِي هذا التساؤلَ.

يقولُ المُتنبي:

كَفَى بِكَ دَاءً أنْ تَرَى المَوْتَ شَافِياَ وَحَسْبُ الْمَنَايَا أنْ يَكُنَ أمَانِيَا 6

أيُ داءٍ ذاكَ الذي يدفعُ الشخصَ للموتِ ,وأيُ داءٍ يكونُ دواءهُ الموت

ومِن الناسِ مَنْ يرى الموت أهونُ ممّا هوَ فيهِ؟

كيف يكون المَوتُ أمنيةً وحلاَ؟

تأمل ما يقول أبو العلاء:

مُهجَتي ضِدٌّ يُحارِبُني أَنا مِنّي كَيفَ أَحتَرِسُ 7

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير