فقد قذف هذا البيت بالمتنبي في أسوار الشجاعة والفخر والعمل الجاد لتحقيق الطموح، وقد كانت له ما بعده من أبيات.
وأجزم أن كل الدوافع الثورية في نفس المتنبي وشعره، لا تعود كلها إلى نسبه الذي ترك المقال للقائلين، وإنما السبب الرئيسي لكل ذلك هو الفقر الذي عاشه المتنبي، وقد صاحب هذا الفقر يتمٌ وتشرد وتهميش ونفس طموحة لا تحتمل كل هذه الأمور، فقد كان كأي طفل يتيم فقير عاش في ذلك الزمن، لا يأبه له أحد، ولا يبالي أحد أن يؤذيه أو يجرح مشاعره الحساسة، ولم يكن للمتنبي في طفولته المبكرة مزايا تجعل الناس تلقي له بالا، فلم يكن أبوه ذا جاه أو مال، بل كان سقاء يحمل الماء، ولم يبد في ذلك الوقت المبكر أن المتنبي شاعر، فلقي أصنافا من الذل والهوان والجوع والتهميش، واستمرت معه هذه الحال فترة من عمره، حتى بعد أن قال الشعر، وتعرف على العلوي محمد بن عبيد الله وعلى غيره ومدحهم، فلم يكن عطاؤهم بالذي يرضي طموح المتنبي، وينقله من حال الفقر إلى حال الغنى، ويؤمن له مستقبل حياته، بل كان ما يأخذه منهم أشبه بالقوت اليومي، وكأنهم يتصدقون به عليه، انظر إليه يقول لمحمد بن عبيد الله العلوي:
وكم وكم نعمة مجللة ... ربيتها كان منك مولدها
وكم وكم حاجة سمحت بها ... أقرب مني إليّ موعدها
ومكرمات مشت على قدم الـ ... بر إلى منزلي ترددها
أقر جلدي بها عليّ فلا ... أقدر حتى الممات أجحدها
فعد بها لا عدمتها أبدا ... خير صلات الكريم أعودها
وانظر لقوله في مدح أبي الفضل وهو في المكتب:
يا من لجود يديه في أمواله ... نقم تعود على اليتامى أنعما
ولم يستغن المتنبي عمن لديهم المال فاستمرت حاجته للأغنياء والأمراء، واستمرت حياته الفقيرة الذليلة غير الحميدة، انظر إليه يقول:
أين فضلي إذا قنعت من الدهـ .. ـر بعيش معجل التنكيد
ضاق صدري وطال في طلب الرز ... ق قيامي وقل عنه قعودي
وتأمل بتأن قوله:
عش عزيزا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود
لا كما قد حييتَ غير حميد ... وإذا مُتَّ مُتَّ غير فقيد
فحياة الفقر والذل والضجر بها، هي التي دعت المتنبي للإسفاف في طلب النوال، والهبوط في ذلك إلى منزلة
تستغرب أن ينزلها المتنبي الذي عرفناه بعدما اكتهل. فقد كان يمدح الأغنياء، ولا يهمه ألا يكونوا أمراء، وكان أيضا يبدؤوهم بالمديح قبل العطاء.
ونعود إلى قصيدته التي أقول إنها سرّه، لنعثر على هذا البيت الذي يعتذر لنا:
لُمِ الليالي التي أخنت على جِدَتي ... برِقَّة الحال واعذرني ولا تَلُم
والشواهد التي تدل على ذلك في شعر المتنبي كثيرة.
هذا الرأي الذي أعتقده في حال المتنبي، والله أعلم
ـ[رؤبة بن العجاج]ــــــــ[18 - 11 - 2010, 08:25 م]ـ
مرحبا، أخي راعي العليا
أعتقد أن سرَّ المتنبي مدفون في قصيدته التي قالها في صباه ومطلعها:
ضيف ألمّّ برأسي غير محتشم ... السيف أحسن فعلا منه باللمم
فقد كان قبل أن يقولها، يخفي آماله وطموحاته، ويحاول أن يحققها بالتأني والمدارة والتأميل، كما في قوله:
ولعلي مؤمل بعض ما أبـ ... لغ باللطف من عزيز حميد
لكنه فجأة ضاق ذرعا بنفسه وصبره وإخفائه مراده، وذلك بعد أن خاب رجاؤه في بعض من يأمل منهم والذين كانوا يعدونه خيرا أو كان يرجو منهم خيرا، وخيل إليه أن الوقت قد حان للبدء الجاد في تحقيق طموحاته بنفسه فقال:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمة ... والحرب أقوم من ساق على قدم
ومما يؤيد ظني أن هذه القصيدة تحمل سرَّ المتنبي، كونها أول قصيدة يصرح فيها المتنبي برغبته في شفاء غليله من طبقتين من طبقات المجتمع وهما الأمراء والأغنياء، وكذلك يدل على أنها التصريح الأول بعدما تنكب هذا الطريق، تشجيعه لنفسه، وتوطينه إياها على سلوك هذه الطريق، وخوض هذه اللجة، فهو يقول لنفسه:
ردي حياض الموت يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنعم
إن لم أذرك على الأرماح سائلة ... فلا دعيتُ ابن أم المجد والكرم
¥