تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هل هناك أصعب من أن تُسْجن داخل نفسك؟

تُرى كيف كان أبو تمام حين قال:

هبّي تري قلقاً مِنْ تَحْتِهِ أرَقٌ يَحْدوهُمَا كمَدٌ يَحْنو لهُ الجَسَدُ

لَوْ يَعلم الناس عِلمِي بالزمَان وَما عاثت يداهُ لما ربُّوا ولاَ وَلَدُوا 8

قدْ كانَ كمدا حزينا , أرِقَا لا ينامُ. قلقا منْ غيرِ اطمئنان.

إننا نجد في شعر هؤلاء المتميزين أرقا وكمدا, وتمنيا للموت بدلا من حياة مريرة لا تجلب لهم أي سعادة, بل هي في شكل من أشكالها تعبا وسببا في الشقاء.

إنها أحاسيس لا تصدرُ إلا منْ نفوسٍ مُرهفةٍ حساسةٍ, تُعَانِي الحياة ذاتها.

((إنّ في شعْر المُتنبِي وشوقي وحافِظ ومَطران, شعرٌ موحد الفكرة والصورة والإحساس, وإذا العمل الفني كله تصويرا لموقفٍ نفسيٍ مُوحَد. أو للحظةٍ شعوريةٍ ذات مغزى يبْدو فيها الوجود للشاعِر مَصبوغا بلونِ نفسهِ)) 9

لقد وُجِدَتْ الوحدةُ الشعورية عندَ المُتنبي في أجملِ حُللِها.

يقول:

مَا لَنَا كُلُّنَا جَوٍ يا رَسُولُ

أنَا أهْوَى وَقَلبُكَ المَتْبُولُ

كُلّما عادَ مَن بَعَثْتُ إلَيْهَا

غَارَ منّي وَخَانَ فِيمَا يَقُولُ

أفْسَدَتْ بَيْنَنَا الأمَانَاتِ عَيْنَا

هَا وَخَانَتْ قُلُوبَهُنّ العُقُولُ

تَشتَكي ما اشتكَيتُ مِن ألمِ الشّوْ

قِ إلَيها وَالشّوْقُ حَيثُ النُّحولُ

وَإذا خامَرَ الهَوَى قَلبَ صَبٍّ

فَعَلَيْهِ لِكُلّ عَينٍ دَلِيلُ

زَوِّدينَا من حُسْنِ وَجْهِكِ ما دا

مَ فَحُسنُ الوُجوهِ حَالٌ تحُولُ

وَصِلِينَا نَصِلْكِ في هَذِهِ الدّنـ

ـيَا فإنّ المُقَامَ فيها قَليلُ10

قد تقرأ هذه الأبيات فتتصور أنّ سرَ جمالِها وروعَتها كامنٌ فِي هذا الغزل الرقيق, أو في عاطفة الحُب المَشبوبة التي تشيعُ مِنْ أبيات هذهِ المَقطوعة, والتي تُصور عِلاقةَ إنسانٍ مُحب بامْرأة لا يَملك كُل مَنْ رَآها إلا أنْ يَقعَ فِي غَرامِهَا, حَتى هَذا الرسول الذي يُرسلُه العَاشِق إلى حَبيبتهِ. لا يَستطيع أنْ يُقاومَ مَا لابُدَ مِن وُقوعِه.11

فتأخذك منها هذه اللهفة الصادقة النابعة من قلب شغوف بحبِ صاحبتِه, وقد تروعَك مِنها البَساطة, وقد يَفتنك مِنْهَا قُدرة المُتنَبي الخَارقة عَلى إثارةِ انفعالِك, والتأثير فِيك بمَا وُهِبَ مِنْ طاقة شُعُورية عالية.

إننا أمام شاعر ينظرُ إلى الوجود والحياة من زاويةٍ خاصة. ويخلعُ على الحَادثة التي أمامهُ ما في أعماقه من رؤية للحياة.

إنها نظرةُ عاطفةُ رجلٍ أدركَ للحظةٍ واحدةٍ, أنّ كلَ مَا كانَ لهُ منْ ماضٍ في الحياةِ قد ضاعَ في غيرِ ثمرة, وأنّ الباقي لديهِ من العُمرِ أقلَّ بكثيرٍ مما ذهبَ, وأنهُ عليه أن يتمسكَ بما بقى لهُ منْ حياة, فيعيشه بفلسفة جديدة, وبروحٍ عاشقة مُتسامحة مُحبه, وترى لهفة إلى حبِ الناسِ جميعًا.

روعةُ المتنبي هنا تكمن في قدرتِه على أنْ يجعلَ منْ هذا الشعور يُسيطرُ على أبياتِ المقطعِ الغزلي كلهُ ويطبعَه بطابِعه.

وممّا لا شكَ فيهِ أنّ الشاعرَ العربيَ عرفَ الرومانسية منْ حيثُ هي أحاسيس ومشاعر مُتدفقة, وخيال تلّونَ بروحِه, في بعض القصائدِ قبلَ أنْ تدفعَ لنا الثورة الفرنسية مَذهبها الرُومانسي دفعا! وبكل فخر.

1ـ دراسات في الشعر والمسرح ص 37 للدكتور مصطفى بدوي ط 1 دار المعرفة.

2ـ ديوان المتنبي للبرقوقي ص 190 جزء 4, دار الكتاب العربي, بيروت, 1986م.

3ـ ديوان ابن الرومي, الجزء الثالث, شرح الأستاذ أحمد حسن بسج, دار الكتب العلمية ببيروت, لبنان , ط3, 2002م. ص 263

4 ـ وقفة بقلمي

5ـ ديوان ابن الرومي, شرح الأستاذ: أحمد حسن بسج, دار الكتب العلمية ببيروت, لبنان, ط3, 2002م. ص374

6ـ ديوان المتنبي للبرقوقي, ص 417, جزء 4, دار الكتاب العربي, بيروت, عام 1986م7 http://www.hayatnafs.com/mona3at_fi_alnafs/depression7 ـ - sufferings&treatment.htm( موقع الدكتور جمال الخطيب)

8 ـ ديوان أبو تمام. تفسير: محي الدين الخياط, مكتبة كندا. نظّارة المعارف العمومية الجليلة, ترنتو. 1413 هـ.367

9ـ دراسات في النقد الأدبي, د: محمد زكي العشماوي, دار الشروق. ط1, 1994م. ص. بتصرف 273

10ـ ديوان المتنبي للبرقوقي, ص 267, دار الكتاب العربي, بيروت, عام1407هـ

11 ـ دراسات في النقد الأدبي, د: محمد زكي العشماوي, دار الشروق, ط1, 1994 م, ص 275. بتصرف

ـ[مُسلم]ــــــــ[16 - 12 - 2010, 10:43 م]ـ

مقال أكثر من رائع

ـ[هدى عبد العزيز]ــــــــ[17 - 12 - 2010, 07:14 ص]ـ

أشكرك أخي الكريم

بارك الله فيك

ـ[أحاول أن]ــــــــ[17 - 12 - 2010, 03:17 م]ـ

تربَتْ يداك أستاذة هدى ..

مادة جديرة بالتأمل .. زادها تنظيمك أناقة حالمة ..

أشكرك ..

ـ[يحيى عيسى الشبيلي]ــــــــ[17 - 12 - 2010, 08:37 م]ـ

مقال مميز من شخصية مميزة

ـ[طارق يسن الطاهر]ــــــــ[17 - 12 - 2010, 09:39 م]ـ

مقال جميل ومفيد، وبحث علمي رائع

لكن أرجو أن تزيدي حجم الخط قليلا مراعاة لأمثالي ممن يلبسون نظارات، وإن لم تغيري حجم الخط سأغير نظارتي:)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير