وبكل هذا بعد الله تكون عندك ملكة التفريق اعتقاداً وسلوكاً بين اليقين القطعي، واليقين الرجحاني، والاحتمال المتكافإ الطرفين؛ فما تيقنته فلا تحِد عنه، ولا تستوحش من كثرة المخالف إلى أن يستجد محسوس يقيني معارض؛ فتعاود النظر، وما كان رجحانياً فحكمه حكم اليقيني حتى توجد مرجحات يقينية تربو على رجحانك؛ فتعاود النظر,, والاحتمال المتكافِأُ هو ما لم يترجح أحد جانبيه بمرجح معتبر مُأَثِّر؛ فحكمه التوقف، وجعل الاحتمالات في حيز الإمكان حتى يستجد مرجح,, ومثل ذلك في النقل الحديث الضعيف توقَّف فيه، ولا تحكم بصحته أو بطلانه حتى يوجد مرجح لأحد الطرفين,, وأرشح لك بداية في هذا المجال دَرأَ تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وموقف العقل للشيخ مصطفى صبري، وجميع كتب ديكارت الفلسفية,, أما عن المغالطات والسفسطة فاقرأ كل ما وقع عليه نظرك,, وها هنا حفظك الله تطير بجناحين قويين: الجناح اللغوي، والجناح الفكري,, وتخرج من الحضانة، وتقرأ كل طيِّب وخيِّب وأنت على نور وبصيرة,, ولكن حفظك الله يجب أن يتزامن مع إنبات الجناحين تربية المحرِّك لهما وهو القلب مستقَرُّ النيّات والمعتقدات,, وهذا على الاعتقاد بأن معرفة الله ومعرفة ما يجب الإيمان به: وجدان فكري في العقل، ووجدان نفسي في القلب,, إن انشغال قلبك في الصلاة، وتذكُّرك ما نسيته من شُأُون (13) الدنيا التافهة، وإغراقك في حكم اليقظة: برهان وجداني على وجود كيد من حذَّرك الله منه وهو الشيطان الموسوس,, وهذا على الاعتقاد أيضاً بأن العقل مخلوق من مخلوقات الله محدود المعرفة، ولكنه شامل المعرفة لما يلزمك من معرفة دينك، وما يلزمك من التكيُّف مع الطبيعة والأوضاع في حياتك؛ فلا تتمزق,, واعلم أن ذكاأَ العقل لا يثمر زكاأً إلا بتربية قلبية,, وتربية القلب بأداإِ الواجبات، وترك المحرمات، والإكثار من القربات، والبغض في الله والحب لله، والاعتصام بالأدعية الصحيحة: فراراً إلى الله، واستعاذةً به، وطلباً للحوائج منه، واستشفاأً بها، وتمجيداً لمنزلها، وطلباً للهداية فيما اختلف فيه من الحق,, ومفكرو العالم غير المُأمنين (14) ذوو ذكاإٍ بلا زكاإٍ,, يبهرجون للباطل، ويشوشون على الحق بذكائهم,, والمُأمن الذكي موفق للحق يقيناً فيما لا يسع فيه الاختلاف، وهو معذور وله أجر فيما يسع فيه الاختلاف.
وأجلُّ تربية للقلب تلاوة القرآن بتدبُّرٍ، ومراجعة سريعة لأيسر التفاسير كابن كثير والشوكاني فيما أشكل,, ويلي ذلك مواعظ الحديث الصحيح، والمواقف المجنِّحة بالقلب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيَر الصحابة رضوان الله عليهم ولا سيما سيرة أبي بكر وعمر وقصة أهل التوبة ككعب بن مالك رضي الله عنه,, ومن تربية القلب الحذق الجيد لما كتب في آداب البحث والمناظرة؛ حتى لا يكون المفكر المسلم خباً ولا باغياً ولا مغبوناً مأخوذاً على غرّة,, وقد حققت في أحد أسفار كتابي من أحكام الديانة أن قوله تعالى: (واتقوا الله ويعلِّمكم الله) دالٌّ أيضاً على أن التقوى سبب للعلم الصحيح,, وإذا حار المسلم في الترجيح قدَّم بصلاة الاستخارة، وإذا استبهم عليه أمر لجأ الى الله بالدعاإِ: يا معلم آدم علِّمني,, يا معلم إبراهيم علِّمني,, يا مفهِّم سليمان فهِّمني,, اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق إنك تهدي من تشاأُ إلى صراط مستقيم,, اهدنا الصراط المستقيم,, ولأمثال هذه الدعوات أدعية صحيحة، تُستفتح بها صلوات النوافل.
ومن تربية القلب علمياً أن تحذق ما كُتب في أسباب خلاف العلماإ كرفع الملام لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب البطليوسي, وإن أردت أن تكون فقيهاً فاحذر كل الحذر من طلب الفقه في كتب الفروع المذهبية، بل استفتِ فيما تجهله الأعلم الأورع من فقهاإ عصرك، واستمر في تحصيلك بالعبِّ من كتب فقه الحديث والخلاف، وأرشح لك الاستذكار لابن عبدالبر، والمحلَّى لابن حزم، والمغني لابن قدامة، ونيل الأوطار للشوكاني,, وليكن تحصيلك بالمحاكمة التي أسلفتها لك.
والأخ الفاضل طلب مني أن لا أذكر كتب الحديث والفقه البحتة,, وليس ذلك لأنها ليست مصدراً للحقيقة، بل أراد المقومات الفكرية للإيمان بها، ثم يكون بعد ذلك الإيمان منها,, والله المستعان.
الحواشي
(1) هذا الرسم المعتاد، وأصح منه وأرجح هكذا: تساأُلات؛ لأن العبرة بحركة الهمزة لا حركة ما قبلها، وضمها بالشكل لا بكتابتها على الواو، ولا غضاضة في توالي ألفين، بل الغضاضة في تغيير صورة الحرف.
(2) الرسم المعتاد سؤال وما أثبته أصح وأرجح وأخصر، وانظر التعليقة رقم (1).
(3) هذا هو الرسم المعتاد,, صححوه بمراعاة حركة ما قبل الهمزة التي يجانسها النَّبرة,, وعندي أن الصواب رسمها على منهج القدماإ هكذا: ينبِأُ لأن العبرة بحركة الحرف نفسه، ولأن الأصل رسم صورة الحرف كاملة إلا لمسوغ,, ولا مسوغ ها هنا.
(4) لا يجوز عطف (التي) بحرف الواو؛ لأن ذلك عطف صفة على موصوف، ولا تعاطف بينهما,, ومن ثم فلا توضع الفاصلة الواو المقلوبة قبل التي.
(5) غير واضح المشار إليه بكذلك,, ولو قال كما أن السوق,,, ك لكان أفصح؛ فيكون الكلام على نسق إلا أن السمة,,.
6 هذا هو الرسم المعتاد، ولا مسوغ لتشويه صورة الحرف هكذا قراءاته، والصواب النهج القديم بإثبات الحرف كاملاً مع مدته هكذا: قراآته.
(7) هذا هو الرسم المعتاد، والأصح والأرجح لألاّ؛ لأن العبرة بحركة الحرف وتمام صورته.
(8) الولد للذكر والأنثى معاً.
(9) الرسم المعتاد أصداؤه صحيح بمجانسة الواو لحركة رفع الهمزة,, وما أثبتته وهو الرسم القديم أصح وأرجح؛ احتفاظاً بكامل صورة الحرف، ولا مسوغ للاكتفاء برأسه، ولا أثر لتوالي ألفين.
(10) الرسم المعتاد المؤهلات وانظر التعليقة رقم (1).
(11) الرسم المعتاد مبتدِىء، وما أثبتته أرجح وأصح، وانظر التعليقة رقم (1).
(12) الرسم المعتاد مؤمني، وانظر التعليقة رقم (1).
(13) الرسم المعتاد شؤون وانظر التعليقة رقم (1).
(14) انظر التعليقة رقم 11.
المصدر http://www.aldahereyah.net/forums/showthread.php?p=15228#post15228