تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وحين خرجت جحافل المستعمرين من بلادنا واحتفلنا بالجلاء والاستقلال حقق ذلك لدينا كثيراً من الرضا النفسي، والشعور بالنصر، فوضعت الشعوب سلاحها، وما كان لها أن تضعه، لأن عدو الداخل أشد خطرً وفتكاً من العدو الخارج ألم يقل جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة الأحزاب: هل وضعتم السلاح؟ قال: نعم قال جبريل: فإنا لم نضعه إذهب إلى هؤلاء وأشار إلى بني قريظة. فأوعز إليهم النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته: " لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ". وكان عقاب بني قريظة قاسياً أزعج إخوانهم العلمانيين المعاصرين اليوم، ولطالما تباكوا عليهم وندبوا مصيبتهم، ولكن عقاب بني قريظة كان مجدياً وناجحاً فقد خرس اليهود بعد ذلك قروناً طويلة ولم تقم لهم قائمة، حتى استنعجتنا الأمم فتجرؤوا علينا اليوم.

لقد نجح الاستعمار إذن في إيجاد البديل " من أبناء جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، مسوحهم مسوح الحملان، وقلوبهم قلوب الذئاب ". وأشعرنا عدونا بالاستقلال، فرضينا نحن بذلك، وقد حصل هو مصالح عديدة:

الأولى: أخرج جنوده عن ساحة الخطر وأعادهم إلى بلادهم.

والثانية: أوهمنا بالتحرر والاستقلال وأرضانا بالصورة الظاهرة لذلك، فوضعنا السلاح قانعين مطمئنين.

الثالثة: تصله مكاسبه وثرواته، وحصته كاملة غير منقوصة، دون أن يقدم بإزائها خسارة تذكر، مغانم بلا مغارم!!.

الرابعة: جعل بلادنا أسواقاً لمنتجاته وبضائعه، وأفواهنا مستهلكة لمأكولاته ومشروباته.

الخامسة: جعل بلادنا دائماً متوترة ومتنافرة بسبب الانفصام الحاصل بين الحكام والمحكومين.

السادسة: وقد خضع هؤلاء الحكام خضوع الرقيق لسيده فهم مجرد ولاة ومنفذين ومطيعين ومخلصين لأسيادهم المستعمرين إلا أن أسماءهم فقط مختلفة فبدلاً من غورو وجورج وبطرس نجد حسني وعبد الله وزين العابدين.

(4)

ومن هنا لا بد من حمل السلاح من جديد لكي نتخلص من هؤلاء الذين يخدمون الاستعمار أكثر من الاستعمار المباشر نفسه، إنهم يكبحون الشعوب باسم الوطنية أو القومية أو غير ذلك من الشعارات الجوفاء، إن ولاءهم كاملٌ لأعداء هذه الأمة، وهم حريصون كل الحرص على إزهاق روح التحرر فيها، فلا يسمحون بأي بصيص من نور أو أمل للحرية أو النهضة، وقد أعدّهم أسيادُهم الأوربيون لذلك إعداداً جيداً ثقافياً وتكتيكياً ومادياً فهم إذا كانوا متخلفين في كل شيء إلا أنهم متقدون في عدة فنون:

- فن المراوغة المكيافللية فهم يبتسمون على الشاشات، ويضربون شعوبهم في معتقلاتها بأيدي من حديد.

- وهم يتظاهرون بالقومية والوطنية، وتُرفع لذلك الشعارات الطنانة، ولكنهم يبعثون بثروات الشعوب لأعداء هذه الأمة.

- وهم يتظاهرون بحماية تاريخ الأمة وتراثها ودينها، ويرفعون الشعارات الدينية، ويحضرون الحفلات الدينية ويصلون، ويبنون المساجد، ويرفعون شعارات حماية الدين والوطن، ولكن في الخفاء يسخرون من كل ذلك، بل إنهم يدنسون مقدساتها ويدمرون مناهجها، ويسدون منافذ الإصلاح ويفتحون بوابات للفساد، والجهل والمرض، والجوع والقمع والكبت.

- وطبعاً يوظفون لذلك كل الفاسدين، ويجعلون منهم رموزاً، ويلبسونهم ألبسة النخبة، ويدهنونهم بألوان من مراهم التلميع، ومساحيق التجميل، لكل الشرائح الاجتماعية، فللمتدينين شيوخ السلطان بعمائهم الضخمة، وجببهم العريضة، وللمثقفين نُخبٌ من المتفلسفين العملاء المدربين على حبك الإشكالات، وسفطة الحقائق، وتحليلها بأشكال تخدم التوجهات السلطانية وتقدم بعض التسكين للشباب الذي يُخشى أن يكون طموحاً. أما لعموم الناس فيقدمون النجوم الإعلامية المختلفة من فنانين وفنانات، وممثلين وممثلات، وكثيراً ما يُفتح المجال لهؤلاء للنقد غير المحدود، لأنه في النهاية مجرد تمثيل، لا يضر بأمن السلطان، ويساعد المشاهدين على تبديد الشحنات المكبوتة، واستفراغ الغصات المحزونة.

(5)

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير