6 ـ احذروا إخواني من الترخص فيما لا يؤمن فساده فإن الشيطان يُزين المباح في أول مرتبة، ثم يجُرُ إلى الجناح، فتلمحوا المآل، وافهموا الحال وربما أراكم الغاية الصالحة، وكان في الطريق إليها نوعُ مخالفة!
فيكفي الاعتبار في تلك الحال بأبيكم: (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى). إنما تأمل آدم الغاية وهي الخلد ولكنه غلط في الطريق.
وهذا أعجب مصايد إبليس التي يصيد بها العلماء يتأوّلون لعواقب المصالح، فيستعجلون ضرر المفاسد!. ص 153.
7 ـ قال بعض العلماء: إن الله تعالى قال في المكروهات: (كُتِبَ عليكم الصيام) على لفظٍ لم يُسَم فاعلُه، وإن كان قد عَلِمَ أنه هو الكاتب. فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال: (كتب ربكم على نفسه الرحمة). ص 164.
8 ـ لقيت مشايخ، أحوالهم مختلفة، يتفاوتون في مقاديرهم في العلم، وكان أنفعهم لي في صحبته العامل منهم بعمله، وإن كان غيره أعلم منه.
ولقيت جماعة من علماء الحديث يحفظون ويعرفون، ولكنهم كانوا يتسامحون بغيبة يخرجونها مخرج جرح وتعديل، ويأخذون على قراءة الحديث أجرة، ويسرعون بالجواب لئلا ينكسر الجاه، وإن وقع خطأ.
ولقيت ُ عبدالوهاب الأنماطي فكان على قانون السلف، لم يُسمع في مجلسه غِيبة، ولا كان يطلب أجراً على سماع الحديث، وكنت إذا قرأت عليه أحاديث الرقائق بكى واتصل بكاؤه، فكان ـ وأنا صغير السن حينئذ ـ يعملُ بكاؤه في قلبي ويبني قواعد، وكان على سمت المشايخ الذين سمعنا أوصافهم في النقل.
ولقيت الشيخ أبا منصور الجواليقي، فكان كثير الصمت، شديد التحري فيما يقول، متقناً، محققاً، وربما سُئِل المسألة الظاهرة التي يُبادِرُ بجوابها بعضُ غلمانه، فيتوقف فيها حتى يتيقن، وكان كثير الصوم والصمت.
فانتفعت برؤية هذين الرجلين أكثر من انتفاعي بغيرهما.
ففهمت من هذه الحالة أن الدليل بالفعل أرشد من الدليل بالقول.
ورأيت مشايخ كانت لهم خلوات في انبساط ومُزاح، فراحوا عن القلوب، وبدد تفريطهم ما جمعوا من العلم، فقل الانتفاع بهم في حياتهم، ونُسوا بعد مماتهم، فلا يكاد أحد أن يلتفت إلى مصنفاتهم.
فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر.
والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلساً على قوة الحجة عليه. ص258 ـ 260.
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[16 Mar 2009, 12:46 ص]ـ
9 ـ كان ابن عقيل رحمه الله يقول: من قال: إني لا أحب الدنيا فهو كذاب فإن يعقوب عليه السلام لما طُلب منه ابنه بنيامين قال: (هل آمنكم عليه) فقالوا: (ونزداد كيل بعير) فقال: خذوه. ص273.
10 ـ للحفظ أوقات من العمر، فأفضلها الصبا وما يقاربه من أوقات الزمان، وأفضلها إعادة الأسحار وأنصاف النهار، والغدوات خير من العشيات، وأوقات الجوع خير من أوقات الشبع.
ولا يحمد الحفظ بحضرة خضرة وعلى شاطئ نهر لأن ذلك يُلهي، والأماكن العالية للحفظ خير من السوافل.
والخلوة أصل.
وجمع الهم أصل الأصول.
وترفيه النفس من الإعادة يوماً في الأسبوع ليثبت المحفوظ، وتأخذ النفس قوة كالبنيان يُترك أياماً حتى يستقر، ثم يُبنى عليه.
وتقليل المحفوظ مع الدوام أصل عظيم.
وأن لا يشرع في فن حتى يُحكِم ما قبله.
ومن لم يجد نشاطاً للحفظ فليتركه فإن مكابرة النفس لا تصلح.
ثم لينظر ما يحفظ من العلم فإن العمر عزيز والعلم غزير، وإن أقواماً يصرفون الزمان إلى حفظ ما غيره أولى منه، وإن كان كل العلوم حسناً، ولكن الأولى تقديم الأهم والأفضل.
وأفضل ما تُشوغِل به حفظ القرآن، ثم الفقه، وما بعد هذا بمنزلةِ تابع.
ومن رزق يقظة دلته يقظته فلم يحتج إلى دليل، ومن قصد وجه الله تعالى بالعلم دله المقصود على الأحسن، (واتقوا الله ويعلمكم الله). ص 311 ـ 313.
11 ـ إخواني! اسمعوا نصيحة من قد جرب وخبر.
إنه بقدر إجلالكم لله عز وجل يجلكم، وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم.
ولقد رأيت والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سِنه، ثم تعدى الحدود، فهان عند الخلق، وكانوا لايلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من كان يراقب الله عز وجل في صبوته ـ مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم ـ، فعظم الله قدره في القلوب حتى علقته النفوس ووصفته بما يزيد على مافيه من الخير. ص336.
12 ـ والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه، وقدره في الناس ليس بذاك!
ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع، والقلوب تتهافت على محبته.
فتدبرت السبب فوجدته السريرة.
فمن أصلح سريرته، فاح عبير فضله، وعبقت القلوب بنشر طيبه.
فالله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر. ص 355.
13 ـ قرأت سورة يوسف عليه السلام، فتعجبت من مدحه عليه السلام على صبره، وشرح قصته للناس، ورفع قدره بترك ما ترك.
فتأملت خبيئة الأمر فإذا هي مخالفة للهوى المكروه.
فقلت: واعجباً! لو وافق هواه من كان يكون؟! ولما خالفه لقد صار أمراً عظيماً تُضرب الأمثال بصبره ويفتَخِرُ على الخلق باجتهاده، وكل ذلك قد كان بصبر ساعة، فيا له عزاً وفخراً أن تملك نفسك ساعة الصبر عن المحبوب وهو قريب.
فتلمحوا رحمكم الله عاقبة الصبر ونهاية الهوى، فالعاقل من ميز بين الأمرين الحلوين والمرين، فإن عَدَلَ ميزانه، ولم تمل به كفة الهوى رأى كل الأرباح في الصبر، وكل الخسران في موافقة النفس.
وكفى بهذا موعظة في مخالفة الهوى لأهل النهى، والله الموفق. ص 366 ـ 367.
¥