تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

سيدي علاَّمة العراق، وناشر لواء السنة في الآفاق، عالم الأُدباء، وأديب العلماء، بارك المولى لنا في حياته، ونفعنا بدوام إفادته، آمين.

سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.

أمَّا بعد:

فقد هجم أمس علينا السرور، ووفد علينا من بشير الحبور، ما يعجز عن وصفه اللسان، ويتضاءل دونه بديع البيان، كيف لا؟ وقد حمل إلينا أبدع كتاب تقر به عيون الكتاب، وتستنير الألباب، فما أحوج العلماء إلى اقتباس فوائده والتحلي بجواهر فرائده، وما أفقر الأدباء إلى ورود حياضه والتمتع بأزهار رياضه، لا جرم أنه كنزُ علم وأدب، حوى من النفائس كل أرب، قدس الله روح جامعه، وأفاض سجال الأجر على مصححه، وطابعه (1).

صادف ليلة جاءني أن كنت في صداع، وقد عَقَدَ آلي (2)، حولي الاجتماع، وأنا أقاسي من الآلام ما يمنعني عن الكلام، فلما ناولينه شقيقي بعد العشاء رأيتني وقد سرى النسيم إلى النشاط والشفاء، فغالبت نفسي، ونبهت لمطالعته قلبي وحسي، وقلت: لأتسينَّ بشيخ الإسلام الأنصاري (3)؛ فقد كان يستشفي بمطالعة العلم ومذاكرة أولي الفطنة والفهم، وبقيت أسامرهُ معظم الليل وهو يرق لي وينيلني من منادمته أعظم النيل، وقد أصبحت بحمد الله وما بي ألم، وكانت بركة الاستشفاء به من أجل النعم.

ثُمَّ سيدي نبشركم بتبرئة صديقنا محمد أفندي كرد علي، ولم يزل في باريز، ولعل " جريدة الأمة" لشقيقه (4) يصل منها شيء إلى دار السلام، فقد توجت أعدادها من أيام برحلته، وفيها من الفوائد والغرائب ما يجدد لأبناء العصر بمطالعته (5).

قلت التنسيقات الجديدة بتعيين مُدرسٍ لكل لواء وقضاء، وقد عُيِّنَ شقيقي قاسم خير الدين مدرساً لبعلبك (6)، ووعد المفتي الجديد بأنه يبقيه في دمشق بمعاشه لسروره بنباهته وذكائه، وقد انقلب حال أولئك إلى الثناء بعد أن كان هجِّيراهم نفثات البغضاء.

مولاي كان قدم دمشق الشام من أعوام السيد عبد الله الزَّواوي، أحد علماء مكة ـ شرَّفها الله ـ ووجهائها (7)، فاراً من وجه الاستبداد إلى جاوة وسنغافورة، فقدم منها زائراً بيت المقدس ودمشق ومصر، فزارنا وزرناه، ثُمَّ كاتبنا من جاوة وكاتبناه، ثم عرَّفني بالفاضل السيد محمد بن يحي بن عقيل أحد المقيمين في سنغافورة للاتجار والاشتغال بالعلم، وهو حضرمي علويٌ، إلا أنه يتشيع بغلوٍّ، مع أنه على مذهب الشَّافعي، فكان كتب لي السيد الزواوي بأنَّه يصلني من مؤلفات ابن عقيل كتاب في النقد على معاوية، هدية من مؤلفه.

فلم تمض مدة حتى حضرني من مدة ذاك الكتاب، ومعه كتاب من مؤلفه، يطلب فيه رأيي في ذلك الموضوع، ولما طالعته ورأيت مؤلفه استعمل حرية الفكر والاجتهاد المطلق في هذا الباب شكرته من هذه الجهة.

إلا أني رأيت في تأليفه مغمز لا يجوز السكوت عنها، فكتبت في الانتقاد عليه نحواً من أربع كراريس مباحث فلسفية وأثرية، ثم خجلت من إرسالها إليه استبقاء لمودته، وخيفة أن يهدم مؤلفه بالكلية؛ لأنه بمثابة النقض لبنيانه واجتثاث أصله.

ثُمَّ ألحَّ عليَّ في عدة كتابات بأنه في انتظار شديد لرأيي، وهكذا كتب لصديقي من الآستانة محمد بن عزوز الذي أرسلت لسماحتكم صورة كتابه لنكثر به جيش العلماء العصريين في مغالبة الجهمية، فاضطررت إلى إرساله، ولما يحضرني الجواب منه، ولابد أن أعلم سمحاتكم بما يرد عليّ منه.

وقد رغب محمد كرد علي على أن يقرظ كتابه في مجلة " المقتبس"، ويشفع بشيء مما انتقدت به عليه، وقد سر بما كتبت، وقال لي: كان أشار السيد رشيد في المجلة إلى الحوار معه، لكن لم يكتب شيئاً مما كتبت بل ولا ألمَّ به.

والآن بعثت لسماحتكم بنسخة منه لتتفكهوا بمطالعتها، وتروا العجب، وأرجو إفادتي عن رأيكم فيه، وأدام المولى لنا سموكم.

.................................................. ....................... حرر عجلة

.................................................. . صباح السبت 11 محرم سنة 1328هـ

.................................................. ............ جمال الدين القاسمي


(1) هو كتاب " غرائب الاغتراب".
(2) أي أهل بيته.
(3) هو: القاضي زكريا بن محمد الأنصاري، له مؤلفات عديدة قدمٌ راسخة في حب العلم والمثابرة فيه، وقد كان في بداية أمره فقير الحال جداً، ويجوع فيخرج ليلاً ويجمع قشر البطيخ ويأكله، فسخر الله له رجلاً طحاناً تكفل له بالطعام والكسوة والكتب سنين، حتى غدا عالماً يشار إليه بالبنان، وعُمِّرَ حتى تجاوز المائة، وتوفي سنة (926هـ)، " الكواكب السائرة للغزي" (1/ 196)؛ ومقدمة تحقيق كتاب " الحدود الأنيقة"، لزكريا الأنصاري، للدكتور مازن المبارك (ص 10).
(4) جريدة الأمة، أصدرها أحمد كرد علي، وظهرت سنة 1327هـ؛ انظر: " تاريخ الصحافة العربية" لفليب دي طرازي (2/ 44).
(5) وقد جمع محمد كرد علي هذه المقالات في كتاب بعنوان:" غرائب الغرب"، وطبعت في المطبعة الرحماية بمصر، سنة 1341هـ، الطبعة الثانية.
(6) هو شقيق الشيخ جمال الدين، توفي سنة (1358هـ)، انظر ترجمته في: " آل القاسمي ونبوغهم في العلم والتحصيل" لراقمه (ص 70 ـ 90)، ط دار البشائر الإسلامية.
(7) هو مفتي الشافعية بمكة المكرمة عبد الله بن محمد صالح الزواوي، ثم الإحسائي المكي الحسني أحد مُدرسي الحرم، توفي سنة 1343هـ. " الأعلام" للزركلي (4/ 132)، و " معجم الشيوخ"، لعبد الحفيظ الفاسي (2/ 96)
، و" دروس من ماضي التعليم بالمسجد الحرام" (ص 128).
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير