ولما جئت مكة كنت أقعد مع طائفة من الإخوان كل يوم في موضع المكبّرية قرب سدة المؤذنين، وكان يقعد معنا كهل كبير السن فلسطيني صالح لا يكاد يفارق المسجد، جاء محرما ًمع بنت له وبنت أخيه. وكنت أستمع إلى حديثه وأحبه لأنه كان صافي القلب صادق اللهجة صالحاً فانقطع عنا أياماً طويلة، وسألت عنه فلم أجد من يعرف مكانه أو يعرف اسم بنته أو بنت أخيه، ثم جاءنا يمشي على رجليه بعد خمسة عشر يوماً، فقلت له: أهلاً يا أبا فلان، أين كنت وما هذه الغيبة التي غبتها عنّا؟
فقال: اسمعوا أحدثكم حديثي، وثقوا أنني إن شاء الله لا أقول غير الحق. لقد أصابني ألم في رجلي لم أعد أستطيع معه أن أجلس عليها،فضلاً عن أن أقوم واقفاً أو أن أخطو ماشياً. وبقيت على ذلك هذه الأيام كلها، والبنتان تخدمانني وتعتنيان بي حتى أحسست منهما بعض الضيق والملل، فتوجهت إلى الله وصرخت صرخة سُمعت من أقصى الدار: يا الله! يا رب، لا اعتراض على قضائك، ولكن لماذا لا تشفيني؟ (يقولها بلهجته العامية المخلصة) ألم أدعك؟ ألم تقل يا رب ادعوني أستجب لكم؟ فها أنا ذا دعوتك فلماذا لم تستجب لي؟
وقال كلاماً طويلاً لا يخرج عن هذه المعاني. قال: وسمعتني البنتان ـ وكان ذلك وسط الليل ـ فقامتا من فراشيهما، وأقبلتا عليّ تتعجبان مني تقولان: مع من تتكلم؟ وكنت غائباً عن نفسي متوجهاً إلى الله بكل قلبي ومشاعري، فنبهني كلامهما وأرجعني إلى نفسي وإلى ما حولي، وأحسست كأنني صحوت من حلم، أو كأنني كنت أحلّق في الجو بلا جناح وأنني هبطت إلى الأرض، وسكتّ وصرفتهما إلى منامهما. وكانت رجلي متصلبة لا أستطيع تحريكها، وإذا بها تتحرك، وإذا بالآلام التي كنت أجدها قد زالت كلها. وجربت أن أقعد فقعدت كالذي ليس به مرض، ثم حاولت أن أقوم فقمت ليس بي شيء. وكنا بضعة عشر رجلاً نستمع منه هذا الحديث، فما شك واحدٌ منا في صدق كلمة مما جاء فيه. وعندي من أمثال هذه الأخبار الكثير، وفي كتاب (الفرج بعد الشدة) للقاضي التنوخي، بل إن في كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) كثيراً من أمثالها.
فمن استنفد الأسباب وغُلّقت في وجهه الأبواب فليمدد يديه وليقل: (يا الله)، يجد الله سميعاً مجيباً كريماً رحيماً، وما خاب قط امرؤ قال: (يا الله)!.83 ـ 88.
بقية الفوائد تأتي تباعاً بإذن الله.
ـ[أبو الفداء أحمد بن طراد]ــــــــ[15 Apr 2010, 06:49 م]ـ
أحسنت أحسن الله إليك، ودونك بعض فرائده ـ رحمه الله ـ:
الاحتفال بالمولد [1] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftn1)
للأستاذ علي الطنطاوي (رحمه الله)
المستشار في محكمة النقض
- 1 -
رأيت للاحتفال بالمولد في دمشق صوراً شتى. الصورة الأولى قديمة جداً، ولكنها لا تزال واضحة في نفسي.
كنت صغيراً، وكنا نسكن في «العقيبة»، في دار من هذه الدور المتلاصقة المتداخلة، المبنية من اللبن والطين، على غير هندسة ولا نظام، وكان أهل الحارة كلهم كأبناء الأسرة الواحدة، يتشاركون في الأثاث والمواعين، ويتقاسمون الأفراح والأتراح، فجاء جيراننا يوماً يستعيرون منا السجاد والمصابيح والكراسي، يحملونها إلى دارهم، فعجبتُ وسألتُ، فقالوا: أن عندهم «مولد».
وصعدت العشية على «الطبلة»، - «الطبلة» في عامة أهل الشام جدار رقيق من أعواد الخشب تسترها طبقة من الطين- وجعلتُ أنظر ماذا في بيت الجيران، فإذا أنا أرى الغرف و «المَشرَقة» قد فرشت كلها بالسجاد، وعلقت فيها الأضواء، لا أعني الكهرباء، فلم تكن قد دخلت يومئذ البيوت، ولكن «الكازات» من كل لون وشكل، من «الشمعدانات» التي توضع على «الكِتْبِيّات» وذوات المرايا التي تركز على الحيطان، و «الكازات» الكبيرة التي تعلّق كالثريات. وامتلأت الدار بعشرات من النساء يختلن بجديد الثياب، ثم وضعت في وسط المجلس أوعية كبيرة فيها أوراق ملونة ملفوفة على هيئة الورد، وجاءت امرأة كبيرة فقعدت في الصدر، وجعلت تقرأ شيئاً لم أكن أدري ما هو، وكلما سكتت سكتة غنت الحاضرات غناء رخواً ممططاً، ثم وزعت الأوراق، وأرسل إلينا منها، فرأيت فيها الفستق «الملبّس» بالسكر .. وعلمت بعدُ أن الذي قرأته هو «مولد العروس».
¥