وكان المولد يُقرأ كلما ولد مولود، أو قدم مسافر، أو شفي مريض، أو قضيت حاجة، وربما نذروه نذراً، وربما وصلوه بـ «ليلية»، و «الليلية» في عُرف تلك الأيام، حفلة غناء وطرب، يغني فيها من يحسن الغناء من القريبات والصديقات، وإن كانت في دار الموسرين الذين لا يبالون الخلق والدين، دعوا بعض المغنيات المحترفات، وكنّ قليلات، ومن غير المسلمات.
- 2 -
ومرت أيام فسمعت يوماً ضجة من المئذنة، لا هي بالأذان «المشروع» ولا هي بالتذكير «المبتدع»، وتبينت في الضجة غناء مستعجل الأداء، متوثب النغمة، حفظت منه هذه الكلمات:
طه [2] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftn2) ياحبيبي سلام عليك – سلام عليك
يا مسكي وطيبي سلام عليك – سلام عليك
فسألت أمي، ما هذا؟ فقالت: مولد!
قلت: أين الأضواء؟ وأين الملبس؟ وأين النساء؟
قالت: هذا مولد المئذنة.
فعرفت أن المولد نوعان، وأن مولد المئذنة غير مولد البيت. وعلمت بعد ذلك، أن من أراد تلاوة هذا المولد، أعطى المؤذن شيئاً من المال، فصعد المنارة فصدح به، وبما قام به الواحد أو الجماعة، ولكل من ذلك سعر، ولا تزال هذه البدعة المؤذية في بعض الأحياء إلى الآن، يأتي بها المؤذن في أي ساعة من ليل أو نهار، لا يبالي بنائم يوقظه، ولا بمريض يزعجه، ولا بمشغول يعطله، ولا بدين يشرع فيه ما لم يأذن به الله!
- 3 -
ولما كبرت ودخلت المدرسة، قال لي رفاقي يوماً:
-امشِ إلى الأموي نحضر المولد.
قلت: مولد النساء، أو مولد المئذنة؟
قالوا: لا هذا ولا ذلك، ولكن مولد الجامع.
وذهبت أنظر إلى ضرب ثالث من الموالد، فوجدت على باب الجامع حرساً شديداً، يأذنون للرجال، ويمنعون النساء والأولاد، فمشينا إلى الباب الثاني فمُنعنا، ووجدنا باب العمارة ما عليه إلا «حسكي» [3] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftn3) واحد، فغافلناه ودخل واحد منا، فلحقه الحسكي يطرده، فدخل الباقون، وصاح بنا ولحقنا، فاحتمينا بالحرم.
ووجدنا الناس متحلقين تحت القبة، وأوعية الملبّس في الوسط، وكانت كبيرة، وكانت كثيرة، وحضر الحكام والوزراء فقعدوا على السدة اليمنى مما يلي المحرات، وجاء الضباط الفرنسيون (وكان ذلك في أعقاب ميسلون) فصعدوا من الدرج الدوار إلى السدة العليا، التي يقوم عليها المؤذنون، وجاء شيخ فقرأ مثلما قرأت المرأة في مولد البيت، ولكنه كان (كما علمت بعد) مولداً آخرا اسمه (مولد البرزنجي)، وكان كلما قرأ فصلاً من فصوله المسجّعة، قال:
عطر اللهم قبره الكريم بعرف شذيّ من صلاة وتسليم
اللهم صلي وسلم وبارك عليه.
ثم غنى المغنون قصائد فيها ذكر الوصل والهجر، والحب والجمال، وأشياء من هذه البابة [4] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftn4) قالوا إنها مدح للرسول صلى الله عليه وسلم!
فلما بلغ خبر الولادة – وبدأت سيرته صلى الله عليه وسلم، لم يسرد سيرته كما ينتظر كل عاقل أن يكون، قطع الكلام ووقف وقام الناس يقرؤون الصلاة الإبراهيمية بنغمة عجيبة ...
ثم داروا بالملبّس، وتزاحم الناس عليه – وتكاثروا، حتى ألقوا الصرر على الأرض، وألقوا بأنفسهم عليها، والفرنسيون ينظرون إلينا ويضحكون علينا ...
- 4 -
ثم صرت أذهب مع أبي [5] ( http://www.fustat.com/hadarat/tantawi_3.shtml#_ftn5) وجماعة العلماء من إخوانه، إلى دارالسيد محمد بن جعفر الكتاني، وكان يسكن في دار من دور الأمراء الجزائريين، في زقاق النقيب في العمارة، وكانت قاعات الدار كلها، وصحنها وإيوانها، تمتلئ يوم المولد بالناس، وفي كل قاعة جفنة عظيمة (منسف) فوقه خروف كامل، فكان الناس يدخلون فيأكلون وينصرفون، ويجيء غيرهم، ويجدد الخروف. وكان الشيخ يقرأ شيئاً من الشفاء للقاضي عياض أو نحوه من الكتب، فكان لوناً جديداً من ألوان الاحتفال بالمولد.
- 5 -
ثم كانت سنة 1925، وكانت البلاد تتمخض بالأحداث، وتتشوف إلى الثأر لموقعة ميسلون، وكان حادث (أدهم خنجر) والتجائه إلى حمى (سلطان الأطرش)، وخفر الحكومة جوار سلطان، وهجومه على المخفر وانتزاعه البلد من الدرك، وجاء يوم المولد على أثر ذلك، ولم يكن الشاميون يحتفلون به احتفالاً شعبياً من قبل، ولكنهم وجدوا فيه في ذلك العام منفذاً لغضبهم المكتوم، فتسابقت أحياء دمشق إلى إخراج المظاهرات الكبيرة، وكان هتافها أول الأمر:
¥