تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولا شك أن معايشته للعديد من التقلبات السياسية والفكرية والاجتماعية التي مرت على العالمين العربي والإسلامي إبان القرن الرابع عشر الهجري وشطر من الخامس عشر – ذات أثر في تشكيل فكره ومن ثم منهجه في الحوار من الآخرين ومناقشته لإطروحاتهم وأفكارهم، فلقد شهد أحداثاً جساماً كنشوء بعض الدول وسقوط أخرى، والجهاد العسكري ضد الاستعمار في أكثر من قطر، واجتياح الدعوات القومية والشيوعية لكثير من البلاد العربية والإسلامية، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وهزائم العرب أمام ذلك الكيان لا سيما في سنة 1967م، ثم خفوت الأصوات القومية وتنامى الأصوات الإسلامية، وتصدي بعض الأنظمة للمد الإسلامي، والحروب التي قامت بين الدول العربية والإسلامية. وكل ذلك صاحبه –بطبيعة الحال – حوارات ومواجهات ومعارك فكرية واجتماعية بين العلماء وغيرهم في شتى أقطار العرب والمسلمين.

والملاحظ أن ابن باز رحمه الله – حسب علمي – لم تظهر تنبيهاته وكتاباته على الساحة في المجال الذي نتحدث عنه إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره بمعنى أنه حين نضج علمياً وعقلياً، فصار منهجه في نصح الآخرين والتنبيه على تجاوزاتهم منهج العالم المدقق، والعاقل الواعي المدرك لخلفيات وأثر ما يقول ويكتب.

وأعتقد جازماً أن من أهم الأمور التي جعلت لابن باز منهجاً متميزاً في الردود على الخاطئين، ومناقشته المخالفين الإخلاص الذي تحسه في كلماته، وتلمسه في كتاباته، فهو لم يرد على أحد ليقضي عليه ويحطمه ويقفز للشهرة على أكتافه، ولم يجادل أحداً ليسفه رأيه ويكشف ضآلة علمه، ولم يكتب ضد فلان لكسب مال أو جاه، وإنما كان – رحمه الله – يبتغي الحق فيما يقول. وبالرجوع إلى مفردات منهجه التي سبقت تعرف – حتى دون أن تتمعن فيها – صدق إخلاصه. ونضيف هنا أنه يحرص – رحمه الله – على عنونة ردوده على المخالفين بتنبيهات وهذا يوحي بالمقصد الحقيقي من كتاباته في هذا الميدان. وإخلاص الشيخ ونزاهته، وصدق لهجته، وسعيه بتجرد وموضوعية لبلوغ الحق إذا حاور غيره أو ناقشه استيقن به العلماء والمنكرون وطلبة العلم، يقول الدكتور محمد منير الغضبان:" قد يختلف الكثيرون من أهل العلم معه في الرأي، وقد يختلفون معه حتى في المنهج الذي يمثله في مدرسته، ولكن لا يختلفون أبداً على الإشادة باستقامته ونزاهته وزهده وتواضعه "، ويقول الشيخ محمد الغزالي قبل وفاته – رحمه الله – عن ابن باز:" لقد كنت أقول دائماً في عالم سلفي نقي مخلص مثل الشيخ عبدالعزيز بن باز إنه من طلاب الآخرة، وممن يؤثرون ربهم على دنياهم، وقد تكون بيننا خلافات فقهية فما قيمة هذا الخلاف وما أثره؟ إن الأئمة الكبار اختلفوا، بل إن داود وسلميان قد اختلفا في الحكم، وهما من هما في النبوة والعلم والحكمة ". ولقد أخبر الشيخ يوسف القرضاوي عما شهده عياناً من طبيعة ابن باز في تلقي وجهات نظر غيره وآرائهم، فقال:" ولقد رأيته في المجمع الفقهي يستمع وينصت إلى الآراء كلها، ما يوافقه منها وما يخالفه، ويتلقاها جميعاً باهتمام، ويعلق بأدب جم، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة دون استعلاء ولا تطاول على أحد، شادياً بالعلم أو متناهياً، متأدباً بأدب النبوة، ومتخلقاً بأخلاق القرآن ".

ولقد ظل العلماء والمفكرون وغيرهم الذين اختلفوا معه في بعض القضايا يحملون له منتهى الاحترام، وغاية التقدير. يقول القرضاوي – أيضاً -:" ولقد اختلفت مع الشيخ العلامة في بعض المسائل نتيجة لاختلاف الزوايا التي ينظر فيها كل منا، ومدى تأثر كل منا بزمانه ومكانه إيجاباً وسلباً، ولم أر أن هذا الاختلاف غيّر نظرتي إليه أو نظرته إلي، وظللت – والله – أكن له المحبة والتقدير، وأدعو له بطول العمر في خدمة العلم والإسلام، وظل كذلك يعاملني بود وحب كلما التقينا، وكلما لقيه أحد من أبناء قطر حمله السلام إلي – رحمه الله – وأكرم مثواه ". وإذا كانت هذه حال الشيخ ابن باز مع مخالفيه فإننا لا نعجب أن تتأسف بعض الجماعات الإسلامية الغالية في أفكارها على وفاته رحمه الله كما ذكرت ذلك إحدى الصحف، حيث نقل عن تلك الجماعة قولها: " إن الأمة الإسلامية فقدت واحداً من أبرز علمائها العاملين الزاهدين الذين تشهد فتاواه ومؤلفاته بغزارة العلم ودقة البحث والحرص على الوصول إلى الحق ومعرفة الصواب " ومع أن هذه الجماعة اعترفت بوجود خلافات بينها وبين الشيخ في بعض آرائه:" إلا أنها شهدت بأنه كان يقصد وجه الحق فيما يأتي، وأنه حريصاً كل الحرص على إصابة الحق في أقواله وأفعاله ... ".

هذا هو منهج الشيخ رحمه الله الذي سلكه في محاورة من اجتهد فأخطأ، أو حاد عن الصواب، أو ند عن الطريق، أو زاغ عن الحق، ولا شك أنه استمده من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم صاغه بأسلوبه المميز، وطابعه الخاص، وبلوره بلورة مناسبة العصر، فصار مثالاً حياً رائعاً لآداب الإسلام وهديه في معاملة المخالفين بالتي هي أحسن، وإيصال الحق إليهم بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة، والاستفادة من ذلك في تعميم الخير ونشره بين المسلمين، فجزاه الله أحسن الجزاء، وحشرنا وإياه في زمرة الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء. إنه سميع الدعاء.


(1) آثرنا عدم ذكر الأسماء لأن المقصود بيان منهج الشيخ رحمه الله لا الأشخاص الذين يناقشهم.

المصدر
http://www.islamtoday.net/bohooth/artshow-86-1064.htm
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير